الأولوية يجب أن تكون لمنع تفجير لبنان. الوضع خطير وخطير جداًَ. فصلُ المجتمع الدولي بين «داعش» في العراق و«داعش» في سوريا سيزيد الوضع تعقيداً و«داعش» تمدّداً. عرسال على كفّ عفريت. التوتّر السنّي-الشيعي بلغ إلى حدّه الأقصى. المزايدات في هذه المرحلة تجرّ لبنان إلى الحرب. الحفاظ على الاستقرار يجب أن يكون الهدف الأوّل والأخير لكلّ القوى السياسية. المجتمع الدولي يريد تحييد لبنان عن سوريا.

الدعم الذي حظيَ ويحظى به الجيش اللبناني يدخل في هذا السياق. السباق بين تسليح الجيش وتسلّح الناس جارٍ على قدَم وساق. التخويف المقصود من عجز الدولة يسرّع في وتيرة التسلّح والذهاب نحو الحرب. المناخات الداخلية متشنّجة ومتوتّرة، والمناخات الخارجية متأزّمة ومشتعلة.

يخطئ «حزب الله» إذا اعتقد أنّه يمكن فصل عرسال عن الداخل اللبناني. وقفُ مسلسل الانتحاريين الذي استهدفَ بيئة الحزب تطلّبَ أن يتنازل سياسياً ليتولّى «المستقبل» المهمّة. هذا النموذج الذي بدأ في لبنان يتمّ اليوم التهيئة لاعتماده في العراق.

المصلحة الوطنية تقتضي أن يكون لبنان في موقع المتفرّج على الأحداث لا المنخرط فيها. المَشاهد الآتية من سوريا تشكّل إنذاراً لكلّ اللبنانيين أنّ نيران جهنّم يمكن أن تنتقل إليهم في أيّ لحظة. الكلام عن أنّ لبنان محصّن، هو كلام فارغ، والدليل الحرب اللبنانية بين عامي 1975 و1990، ومن ثمّ تصدير انتحاريين صُنعَ في لبنان.

الرهان على الاعتدال وبيئات الاعتدال وَهمٌ، لأنّ الاحتقان والتوترات المتنقلة والجبهات المفتوحة وصوَر الحرب من سوريا وغيرها تغلّب التطرّف على الاعتدال. أخبار الموت والشهادة والأمن وصيحات الأهل أصبحت تتصدّر كلّ الأخبار الأخرى.

وفي الوقت الذي يقف لبنان على حافة الحرب يأتي من يتحدّث عن الانتخابات النيابية، في خطوةٍ تلهي القوى الأمنية وتزيد الاحتقانات الشعبية وتُدخِل البلاد في فوضى دستورية وتُسرّع الحرب الأهلية.

هناك شعور شعبي أنّ الحرب أصبحت على قاب قوسين من الوصول إلى لبنان. المعالجات السياسية ما زالت دون المستوى المطلوب. الحياة السياسية مستمرّة وكأنّ الأمور طبيعية. جزءٌ من الطبقة السياسية يقوم بكلّ ما يمكن لإبعاد الكأس المرّة عن لبنان. وقد فعل هذا الجزء كلّ شيء لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولكن دون جدوى.

قال علناً إنّه ضد الانتخابات النيابية قبل الانتخابات الرئاسية. سفراء الاتّحاد الأوروبّي حذّروا من إتمام الانتخابات النيابية في ظلّ التقارير الأمنية المحذّرة من تداعيات هذه الخطوة. الرأي العام مزاجُه للمرّة الأولى مع التمديد لا الانتخاب.

المخاوف من إجراء الانتخابات مزدوجة: زيادة التعبئة والتوتّر، واستهداف الانتحاريين لمراكز التجمّعات الانتخابية. وعلى رغم كلّ ذلك ما زالت المزايدة الانتخابية سيّدة الموقف.

القضية الرئيسية اليوم منعُ تمدّد الحرب السورية إلى لبنان. ولا شيء يعلو هذه القضية. وعلى لبنان أن يحدّد ما هي مصلحته. هل مصلحته تكمن في اعتماد سياسة الحدّ من الخسائر، أم فتحِ مواجهة مع الإرهابيين تعرف الدولة أين تبدأ، ولكنّها تجهل بالتأكيد أين وكيف ستنتهي؟ استهداف بيئة «حزب الله» كان نموذجاً مصغّراً أمام ما يمكن أن يشهده لبنان في حال تورّط في هذه الحرب. الحكمة تقضي بإبعاد هذه الكأس عن اللبنانيين.

العنتريات تؤدّي إلى خراب لبنان. الكلام عن تحرير العسكريين المخطوفين بالقوّة غير مسؤول. الكلام عن تحرير جرود عرسال من الإرهابيين غير مسؤول أيضاً. الكلام عن التنسيق مع النظام السوري للإطباق على الإرهابيين عديم المسؤولية.

التحالف الدولي يضع النظام السوري في نفس منزلة «داعش»، وفي لبنان مَن يدعو للتنسيق مع هذا النظام. كلّ العالم أقرّ بأنّ النظام السوري هو أحد الأسباب الرئيسية لهذا الإرهاب، وفي لبنان من يريد محاربة «داعش» بالتعاون مع النظام.

نقيض ومنقوض باستمرار. «حزب الله» الذي تنازلَ لتيار «المستقبل» من أجل أن يتصدّر المواجهة مع الإرهابيين، ونجَح، يبدو أنّه لا يدرك أنّ التعاون مع النظام يعني توجيه ضربة قاضية ضدّ سنّة الاعتدال وتحويل لبنان إلى ساحة مفتوحة للإرهاب والإرهابيين؟ قتال الحزب في سوريا استجلبَ التطرّف الإسلامي إلى لبنان، والتعاون مع النظام سيستجلب الحرب والدمار.

إتّكاء «حزب الله» على الدولة من أجل أن تتكفّل بالمواجهة يطرح أكثر من تساؤل: لماذا انتقلَ من سياسة الهجوم إلى الدفاع؟ ولماذا لم يعُد أحدٌ يسمع عن إنجازات الحزب العسكرية في سوريا؟ ولماذا في الوقت الذي يعتمد فيه الحزب سياسة الحدّ من الخسائر في سوريا يريد أخذ الجيش ولبنان إلى مواجهة مفتوحة؟ وهل هذا يعني أنّ التعبَ والإرهاق تسلّلا إلى جسم الحزب؟

الخيارات في هذه المرحلة محدودة بخيارين: الخيار الأوّل، الدخول في مواجهة عسكرية في الجرود تحت عناوين وطنية برّاقة سيؤدّي إلى قتل العسكريين المخطوفين واستشهاد عشرات العسكريّين في معركة لا يمكن الحسم فيها، فضلاً عن انتقال التوتّر إلى الداخل، وربّما الحرب، وعودة التفجيرات.

الخيار الثاني، الإقرار بأنّ معركة عرسال نجحَت في تفويت الفرصة على من يريد سورَنة لبنان، وحالت دون إدخال الجيش في حرب استنزاف، وحمَت اللبنانيين في عرسال وكلّ لبنان.

ولكنّ هذا النجاح كان له ضريبته والمتمثلة بخطف العسكريين، وبالتالي المطلوب تحريرهم بأيّ ثمن، لأنّ حياة العسكريين اللبنانيين لا تضاهى بكلّ موقوفي الأرض، ومن ثمّ اتّخاذ كلّ التدابير لمنع تكرار حالات الخطف، وتحصين الوضع العسكري في عرسال من منطلق دفاعيّ لا هجومي، أي منع المسلحين من الدخول إلى عرسال، وهذه مسألة سيادية لا يمكن التهاون فيها، ولكن في المقابل تلافي فتح مواجهة مع الجرود إلّا إذا فُتِحَت تحت عنوان توسيع «داعش» لتمدّدها، الأمر الذي يتطلّب في هذا السياق انتزاعَ قرار من التحالف الدولي بحماية لبنان في حال قرّرت «داعش» التمدّد باتّجاهه.