لم يكتفِ زوار إحدى السفارات الغربية الفاعلة بالاعراب عن خشيتهم على مستقبل الوضع الامني في البلاد، بل وسّعوا رقعة مخاوفهم على التضامن الحكومي الهش، لا سيما بعد أن أدخلت حكومة تمام سلام نفسها في دوامة المفاوضات مع تنظيماتٍ تكفيرية مدرجة على لائحة الارهاب الدولي من دون أن تلقى مثل هذه الخطوة إجماعًا سياسيًا أو شعبيًا أو حتى أمنيًا في ظلّ استمرار الخلاف على دور المؤسسة العسكرية التي أقحمها الاداء الوزاري في زاوية يصعب الخروج منها من دون إحداث تشوّهات ولو بحدّها الأدنى، بالرغم من أنّ المعنيّ الأول والأخير هو قيادة الجيش باعتبارها المتضررة الأكبر من تداعيات عرسال التي أدّت إلى اتخاذ "داعش" وأخواتها أكثر من عشرين رهينة عسكرية للضغط باتجاه الحصول مكاسب سياسية أولها اعتراف الحكومة بها ومفاوضتها بصورة مباشرة وثانيها إحراج القضاء والسلطات الحكومية وإظهار عجزها عن حماية حقوقها ومكتسباتها على عكس "الدولة الاسلامية" التي تطالب بتحرير من تسمّيهم "أسراها" من السجون اللبنانية تحت طائلة تصفية العسكريين المحتجزين لديها.
وتوقف هؤلاء عند المشهد المأساوي الذي رافق وواكب عملية تسليم جثة العسكري الشهيد علي السيد مع ما رافقه من رسائل وجهتها "داعش" في أكثر من اتجاه خصوصًا لأنصارها وحاضنتها الشعبية في لبنان مفادها أنّ التنظيم الارهابي يملك قدرات يمكن الاعتماد عليها والركون لها، كما يملك العزم والقوة الاعلامية القادرة على إظهاره رقمًا صعبًا في المعادلات الامنية والسياسية في لبنان، وبالتالي فإنه قادرٌ على تحويل الساحة المحلية من أرض نصرة إلى أرض جهاد تمهيدًا لاعلان إمارة إسلامية متصلة بقواعدها وحاضناتها. بيد أنّ التكفيريين حذروا قبل عملية الخطف التي حصلت في عرسال من أنهم سيعمدون إلى خطف عسكريين لبنانيين ومبادلتهم بمعتقلين وموقوفين اسلاميين بما يمكن تفسيره على أنه قمة التحدي في مقابل قمة العجز الحكومي عن حماية  القوى العسكرية وهي عمودها الفقري.
غير أنّ الأهمّ والأخطر في المشهد برمته أنه حصل أمام أعين الجميع  وعلى مرأى من الدول الداعمة له ما يمكن اعتباره حربا استخباراتية تدور بين الدول المعنية بالصراع في المنطقة والتي باتت تتخذ من لبنان قواعد انطلاق لها نظرا لخصوبة ارضه وتناقضات ساحته وتعدد الولاءات داخل البيت الواحد وهذا ما سيؤدي إلى المزيد من الارباك في عملية التفاوض التي تخوضها الحكومة عبر وسطاء رسميين ورجال دين وعلماء مع علمها اليقين بأنّ القرار بتفجير الساحة والانقضاض على المؤسسة العسكرية متخذ سلفا ولم يعد ينقصه سوى التوقيت المناسب لاطلاق العملية الكبرى خصوصًا أنّ عملية مقايضة إرهابيين ومحتجزين بالعسكريين لن تغير في استراتيجية "داعش" ولن تثنيها عن إعلان إمارتها، بل على العكس فإنّ المحظور وقع وانتهى الامر. بيد أنّ الحكومة ووفق المشهد الراهن حشرت نفسها في زواية ضيقة دفعتها للتمركز بين سندان الرهائن من جهة ومطرقة القضاء والشارع من جهة ثانية لاسيما أنّ النتيجة التي وصل اليها المأزق هي حصيلة تراكمات وليست وليدة ساعتها.
إزاء هذا التناقض في المعالجات، يتوقف هؤلاء عند إمكانية تعطل عمل الحكومة ووقوفها عاجزة عن مواجهة لواقع ما قد يدفعها الى الاستقالة أو بالحدّ الأدنى إلى التراجع عن تضامنها الهش إفساحًا في المجال أمام تعميم الفراغ والفوضى لا سيما أنّ الاوضاع تسير باتجاهات غير محسوبة خصوصاً أنّ ظاهرة الأمن الذاتي بدأت تتعزّز من دون أن يحسب أحد التداعيات التي قد تنجم عنها والتي قد تعيد الأمور إلى المربع الصفر في ظل استمرار الصراعات الطائفية والمذهبية واستعار نارها بحيث باتت الأمور مفتوحة على الاحتمالات كافة بما فيها اعتكاف الحكومة وعودتها الى المراسيم الجولة في سابقة ليست الاولى من نوعها.