عاد الهمّ الأمني ليتقدّم على ما عداه من ملفات اقتصادية ومعيشية تراوح بين حدي سلسلة الرتب وأزمة المياومين في شركة كهرباء لبنان، وسياسية تتمحور حول الفراغ الرئاسي المستمر منذ ما يزيد عن الثلاثة اشهر والتمديد لمجلس النواب في ظل استحالة كاملة لتمرير الاستحقاق في مواعيده الدستورية. فالمعارك التي شهدتها منطقة عرسال وجرودها في الساعات الاخيرة، وهي معارك لم تفاجئ أيا من الأمنيين أو السياسيين أو حتى المراقبين، تؤشر إلى مساراتٍ خطيرة لا يُستبعَد معها أن تمتدّ رقعة التوترات والاشتباكات إلى بعض محاور البقاع الغربي الذي يشهد بدوره توترات مكتومة وتحضيرات حثيثة بدأت منذ اسابيع مع توافد المسلحين بالتقسيط ومن ثم موجة تسليح وتذخير على غرار ما كان يحصل عشية انفجار الوضع في عرسال للمرة الاولى اي منذ اسبوعين، بحيث انتهت الجولة الاولى إلى ما بدأت عليه مع خسائر قياسية بالنسبة للجيش اللبناني.
ويتزامن الحراك الاتي من البقاع الغربي مع عودة الحديث في الكواليس السياسية العليا عن إمكانية تحريك جبهة طرابلس امتدادًا إلى مناطق عكار والضنية في ظلّ إصرار من قبل التنظيم الأكثر تكفيرًا وتطرفًا، أي "داعش"، على الوصول إلى ساحل المتوسط من خلال الجبهات الأقرب، والتي تضمّ حاضنة شعبية سرعان ما قد تعيد المشهد العرسالي مع بعض الامتيازات على أساس أنّ الاجواء في عاصمة الشمال باتت مهيأة لانشاء امارة اسلامية يقوم عبرها التنظيم المسلح بمحاصرة سوريا بمناطقها الخاضعة للنظام، فضلا عن أهداف تراوح بين حشر لبنان بين سندان الحرب المذهبية ومطرقة الامن الهش والتحولات السياسية الاقليمية المترافقة مع عمليات إعادة حساب تقوم بها الدول وحكامها وقادتها.
في هذا السياق، تكشف معلومات تلقاها سياسي مخضرم في الأيام القليلة الماضية عن وجود تحذيرات من انفلات أمني غير مسبوق قد يعيد الوضع في البلاد إلى المربع الاول في ظل مؤشرات سياسية متصلة بالوضع الاقليمي بصورة عامة على غرار سفر رئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري الى السعودية للتشاور وعدم عودته منها، أو إصرار وزير الداخلية نهاد المشنوق على مقولة الامن المتردي المانع لاجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها الدستورية، إضافة إلى عدم إسقاط مشروع النائب نقولا فتوش القاضي بالتمديد للمجلس النيابي لمدة نصف ولاية كاملة، ناهيك عن كل ما يدور في الكواليس من خشية على الاوضاع العامة في البلاد ومن امكانية انفجار الوضع في ظل اعتراف رسمي بوجود "داعش" على حدود لبنان وتأسيسها خلايا متعددة الاهداف في اكثر من منطقة في الشمال وبيروت والبقاعين الغربي والاوسط.
غير أنّ ما يشغل أهل السياسة في هذه المرحلة هو ما وصفته المصادر بالخطة "الداعشية" القاضية بالهجوم المباشر على المؤسسة العسكرية تمهيدًا لإدخالها في حرب استنزاف غير قادرة عليها في ظل عدم توافق كامل على دوره، إضافة إلى التحفظات المعلنة من قبل هيئة العلماء المسلمين وبعض الدائرين في فلكهم. فانسحاب "داعش" و"النصرة" من عرسال لم يكن منطقيا ولا من سياسات التنظيمين الاكثر تشددا، وبالتالي ترك الجيش اللبناني لبعض المعابر مفتوحة بناء على قرارات سياسية، ومن ثم الدخول في مفاوضات مع الارهابيين بطريقة شكلت اعترافا بدورهم، كلها أمور لا تبدو منطقية في مثل هذه الظروف الحساسة. بيد أنّ التسريبات عن تصفية أحد الجنود اللبنانيين الرهائن وعدم النفي أو التأكيد تحمل دلالات فائقة الخطورة كما تحمل رسائل نارية من شأنها أن تصل بسرعة إلى اللاعبين الكبار وعنوانها الوحيد أنّ الاصرار على تعكير الامن في لبنان بات من ثوابت الارهابيين، ما يعني بحسب المصدر أنّ لبنان مقبلٌ على مزيد من الأزمات التي لن تنتهي لا بانتخاب رئيس جديد للبلاد ولا بالتمديد لمجلس النواب، بل بتسوية دولية اقليمية ترخي بتداعياتها على الساحة المحلية.