تعذُّر انتخاب رئيس للجمهورية الذي أدّى إلى تمديد عمر الحكومة حتى إشعار آخر بعيد، فضلاً عن الإنتاجية التي حقّقتها هذه الحكومة في أكثر من ملف، دفعَت بعض الأوساط السياسية والإعلامية والشعبية إلى التساؤل مجدّداً عن مدى صوابية قرار «القوات اللبنانية» البقاء خارج السلطة، كما تحميلها خطأ تقدير اللحظة والموقف السياسيّين.

لا يمكن مقاربة أيّ مسألة أو حدَث أو استحقاق إلّا بالعودة إلى لحظة تكوينه والظروف المؤسسة له والمحيطة به، وبالتالي إسقاط الوضع الراهن على وضع سابق لا يجوز، ولذلك العودة إلى المناخات التي سبقت تأليف الحكومة ورافقتها ضرورية، لأنّ خلاف ذلك يكون الحكم على هذا القرار أو ذاك، أو تقييم هذا التوجّه أو ذاك، في غير محله.

وانطلاقاً من ذلك يمكن التوقف أمام مسألتين أساسيتين:

المسألة الأولى، أظهرَت «القوات» من خلال رفضها المشاركة في الحكومة أنّها الأقرب إلى توجّهات الرأي العام الاستقلالي، وموقفُها لم ينمّ عن مسايرة توجّهات هذا الرأي العام، إنّما عن قناعة سياسية بأنّ التحوّل بين مرحلة وأخرى يتطلب تهيِئة جدّية للأجواء، ولو استغرقت وقتاً، لأنه لا يجوز التعامل مع الرأي العام وكأنه تابع وملحق، فيما يفترض أن يكون شريكاً أساسياً في توجّهات هذه الحركة، وإلّا تحوّلت إلى نسخة طبق الأصل عن 8 آذار، علماً أنّ قوّة 14 آذار تكمن في حيوية رأيها العام.

ويجب الإقرار بأنّ قرار المشاركة في الحكومة لم يكن شعبياً على رغم المكاسب التي حقّقتها 14 آذار، إنْ بنوعيّة الوزارات والوزراء، أو بفعل التنازلات التي أقدم عليها «حزب الله»، وذلك نتيجة الاحتقان السياسي الذي كان قد وصل إلى ذروته مع اغتيال الشهيد محمد شطح، كما الشروط التي رافقت أيّ كلام عن حكومة وحدة وطنية من قبيل أن لا حكومة من هذا النوع قبل انسحاب الحزب من سوريا.

والموقف الشعبي من الحكومة يُقاس في وقتِه، ولا يقاس اليوم، حيث الناس يتطبّعون مع الواقع في حال لم يجدوا مشروعاً بديلاً، كما أنّهم يريدون تسيير مصالحهم وأمورهم الحياتية.

ولذلك فإنّ موقف «القوات» بعَدم المشاركة كان صائباً 100%، علماً أنّ الأخيرة لم تضع شروطاً تعجيزية لمشاركتها، إنّما دعت إلى عدم الاستعجال، لأنّه لا يوجد شيء يستدعي هذا الاستعجال، حيث إنّ «حزب الله» الذي فتح الباب لأسباب أمنية لن يقدِم على إقفاله، وقد أثبتت التطورات اللاحقة أنّه كان بالإمكان فعلياً إعطاء مزيد من الوقت، كما دفع الحزب إلى مزيد من التنازلات، ولكنّ ما حصل قد حصل، وأهمّ إنجاز أنّ 14 آذار حافظت على وحدتها وتماسكها بعيداً عن مزايدات من هنا، أو رمي مسؤوليات من هناك.

فما يصحّ اليوم لا ينطبق على الأمس، وتقييم أيّ موقف يجب أن يكون على قاعدة مبدئيته لا انتهازيته، حيث من سخريات القدر تحوّلت الانتهازية إلى شطارة والمبدئية إلى سوء تقدير سياسي، وأصبحَت «القوات» تُلام على عدم مشاركتها، بدلاً من أن تُهنَّأ على ثباتِها في الموقف. وما تقدَّم لا ينطبق على المكوّنات الأخرى داخل 14 آذار، حيث لكلّ مكوّن اعتباراته وحساباته ورؤيته، بمعنى أنّ عدم المشاركة لا يعني إطلاقاً موقفاً بطولياً، كما أنّ المشاركة لا تعني إطلاقاً موقفاً تنازلياً.

المسألة الثانية، أظهرَت «القوات» أنّها في غير وارد قيادة مشروع مواجهة مع الحكومة أو تصدّر معارضة الجلوس مع «حزب الله» حول طاولة واحدة، إنّما معارضتها كانت جزئية وبِنتَ لحظتها، ولو أُخِذت ملاحظاتها في الاعتبار لكانت بالتأكيد اليوم في عداد المشاركين في هذه الحكومة، الأمر الذي ينسجم إلى حدّ بعيد مع الممارسة التي انتهجتها منذ العام 2005 والقائمة على مبدأ الصمود السياسي مقابل عدم إعطاء الفريق الآخر فرصة جَرِّ اللبنانيين إلى الحرب من منطلق أنّ العامل المقرّر في لبنان هو، ويا للأسف، خارجيّ، نتيجة رفض هذا الفريق تحييدَ لبنان والاحتكام إلى قرار الشرعية اللبنانية.

وقد أثبتَت كلّ القوى السياسية الأساسية، بمعزل عن اعتباراتها المختلفة، أنّها ضد إيصال لبنان إلى الانفجار، وأنّها على استعداد لإبرام تسوية أو تقديم تنازل في الوقت المناسب، ما يجعل الأمور في لبنان معلّقة بين حدّي التبريد والتسخين، بانتظار الحلول الجذرية التي قد تأتي أو لا تأتي مع التسويات الخارجية المؤجّلة.

ويبقى السؤال: هل فوَّتت «القوات» على نفسها فرصة تاريخية بعدم مشاركتها في الحكومة؟ وهل امتناعُها يمكن أن يجرّ الويلات عليها؟ بالتأكيد كلّا، فزمنُ ما بعد العام 2005 يختلف عن زمن ما بعد 1990، ومن ثمّ خلافاً لما يظنّ كثيرون، المقياسُ لدى المزاج الشعبي اللبناني هو سياسي بامتياز لا سلطوي أو غيره.

وهل ستشارك «القوات» في حكومة ما بعد الانتخابات الرئاسية؟ بالتأكيد نعم، ضمن توافق 14 آذار، لأن لا موقف مبدئياً من عدم المشاركة، والتحفّظات التي كانت قائمة تبدّدت مع الوقت الذي حوَّل المشاركة مع «حزب الله» في حكومة واحدة إلى مسألة طبيعية، على غرار ما كانت عليه قبل إسقاطه حكومة الرئيس سعد الحريري وقتاله في سوريا.