في عدد جديد لمجلة "عالم المعرفة" حول تاريخ إيران الحديثة من تأليف أروند إبراهيميان وترجمة مجدي صبحي، يثير المؤلف، في فصول الكتاب وفروعه عناوين مؤسِسة للدولة الإيرانية من القاجارية إلى الجمهورية الإسلامية، ضمن مساحات شاسعة من التحولات الجذرية في بنيتيّ الدولة والمجتمع، وثمة الماحات كثيرة لأشخاص أسهموا في قيادة هذه التحولات، أو في التأسيس لها من خلال معطى تاريخي اشتراطي يعيد إنتاج أحكام التاريخ، وفق شبكة واسعة وكبيرة من التدخلات المؤدية، إلى الإصلاح والتغيير في بنى السلطة الإيرانية.

لا شك بأن الوصف التاريخي واستعراض أنموذجه السلطوي الإيراني بمرّ بحالة من الاندماج مع تركيبات المجتمع الفارسي من خلال قومية متماسكة استندت إلى مذهبية محتاجة إلى تماسك قوموي وشعبوي، يتيح لها نمواً في ظل استعدادات تاريخية مركبة، على ضوء صراع سلطوي إسلامي تمظهر تاريخياً، فيما عُرف في "الفتنة" واستمرّ بأشكال مختلفة إلى أن وصل إلى واقعنا اللحظوي من خلال الانهيار الكامل بشكل "الأمّة" الموحدة تحت لافتة ويافطات المذاهب المختصرة للنصّ الإسلامي، وتجربته المثقلة بهواجس الصراعات والتأزمات القائمة على مفاهيم تأويلية وعلى بذور قبلية، أرهقت الإسلام الذي استطاع الاستمرار بإرادة السلطويات التي تحكمت وحكمت به.

ما لفتني في تاريخ إيران الحديثة إضاءة الكاتب على شخصية الدكتور علي شريعتي الإشكالية، والتي تنازع عليها وحولها الكثيرون من إيرانيين وغير إيرانيين. وما زالت صورته وكتيبه ومحاضراته وأدواره في داخل الثورة وخارجها، تعكس في مرآة الاتجاهات الإسلاموية وجوهاً مغايرة ومتعددة، حتى الدولة الإيرانية نفسها تعاطت مع شريعتي في طرق متعددة، فكانت تحاصره أحايين كثيرة وتفتح فضاءه المعرفي في أحيان محدودة، إلى أن بسطت كفيها على تراث شريعتي، وتمّ طباعة كُتبه بحيث سكنت السنوات الأخيرة الخمس دُور النشر المحسوبة على السياسات الإيرانية، أو تلك التي تدور في مساحة النشر الإيراني.

يقول المترجم وعلى لسان الكاتب: أن شريعتي هو المنظر الحقيقي للثورة الإسلامية، والممثل النموذجي لجيل إيراني جديد من المهنيين الجامعيين من المنتمين إلى الطبقة الوسطى التقليدية. وكان والده مدرساً بإحدى المدارس، وقد تخلى عن "عمامته" لكنه استمر في تعليم القرآن في مدارس، الدولة في مشهد، وأسس مركز نشر الحقيقة الإسلامية، وأقام الفرع المحلي لحركة "عباد الله" الاشتراكيين، وكان من المؤيدين الأوفياء لـ"مُصدّق"، وقد لمح المحافظون إلى أن شريعتي كان سراً "سُنيّاً" و"وهابياً" بل حتى "بابياً"، تولى شريعتي وبعد تخرجه من كلية المعلمين، بمشهد التدريس في مدرسة قروية والتحق من مشهد ليدرس العربية والفرنسية، وقام بترجمة كتاب "أبو ذر: الاشتراكي الزاهد" من العربية، وهو يعرض سيرة أحد صحابه النبي(ص) الأقلّ شهرة. وجادل هذا الكتاب شخصية أبي ذر باعتباره رائداً للاشتراكية في تاريخ العالم. وتعبيراً عن تأثر شريعتي بأبي ذر الغفاري قال شريعتي في رثاء ابنه: إن ابنه حاول أن يعيش طبقاً لمبادئ أبي ذر منذ اليوم الذي قرأ فيه سيرة حياته حتى اللحظة التي مات فيها" ورثاه آخرون باعتباره "أبا ذر إيران".

ويشير المترجم إلى فوز شريعتي بمنحة من الدولة للدراسة في فرنسا وقد أمضى أوائل الستينيات الصاخبة في "السوريون". وحضر محاضرات لجورج غورفيتش عالم الاجتماع الماركسي، ولويس ماسينيون وهنري كوربيين، المستشرقين الفرنسيين المهتمين بالتصوّف الإسلامي. وقام شريعتي بترجمة كتاب ماسينيون عن "سلمان باك" الذي وصفه بأنه "أول مسلم، أول شيعي وأول إيراني يدافع عن الإمام علي(ع) وشارك شريعتي في المظاهرات المطالبة باستقلال الجزائر والكونغو، وضُرب بقسوة خلال إحدى مشاركاته في ضده المظاهرات. وكَتَب شريعتي مقالات للجريدة الناطقة بلسان اتحاد الطلاب الإيرانيين – منظمة شكلها الأعضاء الصغار في كل من ضرب ثورة والجبهة الوطنية، وترجم شريعتي كتاب جان بول سارتر "ما الشعر"؟ وكتاب تشي غيفارا "حرب العصابات" وبدأ في ترجمة كتاب فرانز قانون "معذبو الأرض" وكتاب عن الجزائر عنوانه: "الكفاح الأفضل".

عاد شريعتي إلى إيران في العام 1965، وأمضى العقد التالي في التدريس بمشهد وطهران، حيث أسست مجموعة من "المُحسنين" المتدنيين قاعة محاضرات شهيرة سُميت حسينية "الإرشاد" وكانت المنبر المفتوح لشريعتي ومكان تواصله مع النُخب الإيرانية، وقد وُزعت محاضراته على نطاق واسع من خلال كتيّبات وشرائط مسجّلة. ولاحقاً محاضراته في كُتب تتكوّن من خمسة وثلاثين جزءاً. وفي نهاية المطاف اعتقل شريعتي وأرغم على الرحيل إلى إنجلترا حيث سقط ميتاً عن عمر يبلغ أربعة وأربعين عاماً.

يقول الكاتب وعلى لسان المترجم بأن أعمال شريعتي كانت خصبة وسيطرت عليها فكرة رئيسية وهي: أن الجوهر الحقيقي للتشيّع هو الثورة ضدّ كل أشكال الاضطهاد، وبخاصة ضدّ الإقطاعية، الرأسمالية، والإمبرالية، ووفقاً لشريعتي، فإن النبي(ص) لم يبعث لتأسيس دين جديد فقط، بل مجتمع ديناميكي لتحريك الثورة الدائمة تجاه تحقيق يوتوبيا مجتمع بلا طبقات، وأن الإمام الحسين(ع) قدمات أني كربلاء ليس فقط بسبب قدره المحتوم، وبسبب الرغبة المشتعلة أيضاً في إبقاء الجوهور الحق للإسلام حيّاً، بل لإعادة واكتشاف وإحياء الجوهر الحقيقي للإسلام الثوري. ووفقاً لشريعتي فإن التشيع بنظره رؤية متماسكة للعالم، حيث يكون المحرك الرئيس للتطور الإنساني، وهو عملية أخذ وعطاء بين الحتمية التاريخية وحركة الديالكتيك والديالكتيك التاريخي.

ويضيف الكاتب بأنّ شريعتي بث معاني راديكالية في المصطلحات القرآنية فقد ترجم كلمة "أمّة" لتعني مجتمعاً ديناميكياً في ثورة دائمة، "والتوحّد" بالتضامن الاجتماعي، والإمامة (حكم الإمام) بالقيادة الكاريزمية و"الجهاد" بالنضال من أجل التحرر، و"المجتهد" بالمناضل الثوري و"الشهيد" بالبطل الثوري، و"المؤمن" بالمناضل الحقيقي، و"الكافر" بالمراقب السلبي، و"الشريك" بالخضوع السياسي، و"الانتظار" للمهدي بتوقع الثورة، و"التفسير" بالمهارة في استخراج معانٍ راديكالية في النصوص المقدّسة وبرأي الكاتب أن الأكثر تأثراً من كل ضده التفسيرات للمصطلحات الدينية، هو مصطلح "المستضعفون" والذي فسّره بالجماهير المضطهدة واعتبر قصة قابيل وهابيل مجالاً للصراع الطبقي.

كانت كربلاء بالنسبة لشريعتي درساً أخلاقياً في التضحية الثورية، وسك شريعتي شعار: "كل أرض كربلاء، كل يوم عاشوراء، وكل شهر محرم. ووصف الإمام الحسين(ع) بأنه شي غيفارا المُبكر وفاطمة(ع) ابنة النبي(ص) كأم عانت طويلاً وزينب(ع) – أخت الحسين – كامرأة نموذج أبقت على الرسالة الثورية حيّة. وليس غريباً أن الكثيرين ينسبون إلى شريعتي فضل تحويل الإسلام من دين ومذهب إلى أيديولوجية سياسية تعرف في الغرب بمصطلحات مختلفة كالإسلاموية – الإسلام السياسي – أو الإسلام الراديكالي. وفي تأويله المختلف جذرياً للإسلام مع طبقة المفسرين من رجال الدين، لم يكن شريعتي يخشى في إدانة العلماء المحافظين الذين لا يتدخلون في الشأن السياسي، فقداتهمهم باستخدام الدين رأفيوناً" للجماهير، وبأنهم يستنزفون روح الإسلام الحيّة بتحويلها إلى شيء جامد وجاف، وبأنهم جماعة مولّعة بالموضوعات الباطنية والطقوسية، والنظافة الشعائرية وبأنهم متعاونون مع كل من الطبقة الحاكمة وبرجوازية البازار الصغيرة، وبأنهم يستبدلون التشيع الأحمر بلائحة بالتشيع الأسود للأسرة، الصفوية، وبالإجال بأنهم أكثر اهتماماً بالعلوم الدينية والفلسفية والفقه من اهتمامهم بالإيمان "والفعل، والالتزام، وقد أقام شريعتي تمييزاً حادّاً بين إسلام المجتهدين وإسلام المجاهدين.

وينهي الكاتب أقواله في الدكتور علي شريعتي بأقوال شريعتي في الإسلام حيث يقول: من الضروري شرح ما الذي نعنيه بالإسلام؟ نحن نعني به سلام أبي ذر، وليس إسلام الخلفاء، إسلام العدل والقيادة السليمة، وليس الحكام والارستقراطيين والطبقة العليا. إسلام الحرية والتقدّم والوعي، وليس إسلام العبودية والأسر السلبية، إسلام المحاصرين وليس إسلام رجال الدين إسلام الفضيلة والمسؤولية الشخصية والاحتجاج، وليس الخداع الديني، والشفاعة (الرجال الدين) والتدخّل الكهنويّ؟، إسلام النضال من أجل العقيدة والمجتمع والمعرفة العلمية، وليس إسلام الحصار والجحود العقائدي والتقليدي لرجال الدين.

وقد أتت أكثر آراء شريعتي راديكالية في مؤلفه الأخير "الانحياز الطبقي في الإسلام" وفيه حاول وأيقن بأن لرجال الدين صلات عضوية بالطبقات المالكة، حيث يحصلون على دخلهم من الأوقاف، والخمس، وسأل بفصاحة: هل تعرف ما المشكلة الحقيقية للإسلام المعاصر"، وكأن أجابته: إن الإسلام قد أتمّ زواجاً غير مقدّس مع البرجوازية الصغيرة، في هذا الزواج، جعل رجال الدين من الدين شيئاً مريحاً للبازار، وجعل البازار من العالم شيئاً مريحاً لرجال الدين كما كان في عصر الإقطاع، وقد برر هذا الإسلام سلطة مُلاّك الأراضي، والآن وفي عصر الرأسمالية فإنه يغمض عينه وبين رجال الدين عن التجار ويغفر لهم، وصعد شريعتي في غضبه على رجال الدين بسبب منحهم أنفسهم ألقاباً فخيمة مثل آية الله وحجة الإسلام، لكيّ يخفوا عن الشعب حقيقة أن قادتهم كانوا رعاةً، وحرفيين، وفلاحين، ولكي يضعفوا من راديكالية الإسلام لتصل إلى أبوية مخففة، وقد خلص شريعتي إلى خاتمة في رجال الدين معتبراًفيها بأن العلماء قد أضاعوا مهمة نشر الرسالة الحقيقية للإسلام، وباتت مهمته العاجلة خوض معركة تحرير كامل للإسلام من رجال الدين والطبقات المالكة.