لم يكد عرض الفيلم التشيكي «لا مكان في منروفيا» لميروسلاف كروبوت (المسابقة الرسمية) ينتهي، حتى تدفّق مشاهدون عديدون إلى الحانات القريبة من صالة العرض داخل المقرّ العام لـ«مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي»، لمتابعة وقائع مباراة كرة قدم في «مونديال 2014»، جرت وقائعها بين ألمانيا والبرازيل. كانت الساعة قد قاربت العاشرة مساء الثلاثاء 8 تموز 2014 بتوقيت جمهورية تشيكيا. انتهى عرض الفيلم قبل دقائق قليلة. أما الباقي على مستوى اللعبة الرياضية، فمعروف. مشجّعون تشيكيون للـ«مانشافت» احتلّوا أمكنة متفرّقة داخل الحانة. لم يعد هناك مجالٌ لمناقشة الفيلم، أو للتحدّث بأمور أخرى. زملاء وأصدقاء فضّلوا مُشاهدة المباراة على كل شيء سينمائي. الاهتمام العام منصبّ على المباراة، خصوصاً بعد بداية «الرحلة العظيمة» للمنتخب الألماني «نحو الفوز». أما نتيجة المباراة (7 ـ 1 لمصلحة ألمانيا)، فكانت مدار أحاديث متفرّقة.

متعة المُشاهدة

كان المشهد جميلاً، وإن لم يُشارك تشيكيون كثيرون في حفلة المُشاهدة المنتظرة بين فريقين يُعتَبران من الـ«كبار». هناك من ارتأى البقاء خارج لعبة التشجيع والمنافسة، في مقابل من تشدّدوا في متابعة المباراة. الشاب التشيكي الجالس قربي لم «يُحسِن» مخاطبة صديقته، التي بدا أنها معتادة انهماكه وانشغاله بالمباراة. أما هو، فبدا كأنه متابع دقيق لها. هذا عادي. لكن المباراة لم تكن عادية. عند انتهائها، علّق أحدهم بإنكليزية واضحة: «هذه مجزرة»، ردّاً على صديق له وصف المباراة بـ«مخيّبة للآمال». هذان ضيفان جاءا إلى «كارلوفي فاري» للمشاركة في مهرجانها السينمائي الدوليّ، وأرادا متابعة المباراة، من دون أن تبدو عليهما حماسة المشجِّعين الأوفياء. «مجزرة»؟ «فضيحة»؟ لا أعرف. فالأهمّ كامنٌ في فوز الـ«مانشافت»، من دون أن يعني هذا انفضاضاً عن منافسة أخرى تحتمل من الجماليات كَمًّا هائلاً من الصُور والتعابير البصرية والاشتغالات الفنية والدرامية. منافسة أشدّ وأعمق، تتيح كمباريات كرة القدم إمكانية التمتّع بعروض تليق بهذه الصناعة أو بتلك: «ما جرى في مباراة ألمانيا ـ البرازيل لم يكن ممتعاّ كثيراً، أقلّه على مستوى المنتخب البرازيلي»، قال أحد الأصدقاء متحسّراً على الهزيمة المدوّية للبرازيليين. لكن «الجانب السينمائي» في «كارلوفي فاري» يبقى الأبرز بالنسبة إلى كثيرين.
خارج اللعبة الرياضية، كشفت أفلام عديدة مُشاركة في الدورة الـ49 (4 ـ 12 تموز 2014) لـ«مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي» حساسية إبداعية مثيرة للانتباه. أفلام معقودة على قسوة العيش، ومشغولة بلغة سينمائية تتكامل عناصرها في معاينة تلك القسوة ومتاهاتها. «الناس العصافير» للفرنسية باسكال فيرّان (برنامج «آفاق») أحد تلك الالتماعات الذكية في فهم ذوات فردية محاصَرة داخل قمقم الخيبة وانسداد الأفق. «بشع» للهندي أنوراغ كاشياب (برنامج تكريمي للمخرج، يتضمّن عروضاً لـ8 أفلام له) إضافة بصرية تخرج قليلاً من النمط البوليوودي، من دون أن تستكمل أداوتها السينمائية الغربية كلّها. فيلم التحريك «حجارة في جيوبي» (إنتاج مشترك بين الولايات المتحدّة الأميركية ولاتفيا) لسيغني بومان (المسابقة الرسمية)، مناقضٌ لهما تماماً، شكلاً ومضمونا ومعالجةً.

تعرّ

الفيلم الهندي مختلفٌ عن صناعة السينما البوليوودية، تلك التي لا يحبّها المخرج الشاب (مواليد 10 أيلول 1972): «كبرتُ مع مغامرات نجم هذا النوع آميتاب باتشان. غير أني اكتشفتُ، في مراهقتي، وبفضل استعادة ما، تُحفاً سينمائية رائعة لفيتّوريو دي سيكا وروبير بروسّون»، قال كاشياب، مضيفاً ان مارتن سكورسيزي وجان ـ بيار ملفيل باتا، لاحقاً، أستاذين له. على الرغم من هذا كلّه، كان عليه أن يبدأ حياته المهنية في «أحضان الصناعة السينمائية البوليوودية»، وإن غادرها سريعاً معتمداً على نوعية الفيلم الـ«نوار» والعنيف في اشتغالاته اللاحقة. «بشع» أحد تجلّيات هذا الإسراف السينمائي في النوعية المذكورة. موغلٌ هو في تفاصيل عملية خطف متحوّلة إلى جريمة قتل، كي يرسم شيئاً من بشاعة الفساد المتحكّم في نفوس ومؤسّسات رسمية وعلاقات عائلية. هذا لا علاقة له إطلاقاً بمآسٍ فردية «ضجّت» بها حيوات شخصيات الفيلم الفرنسي: إحباط منبعثٌ من لحظة متشدّدة برؤيتها واقع الحال، ورغبة ملحّة في خروج آمن (ولو بحدّ أدنى) من نفق خراب يومي قاس ومُلحّ، واصطدام بحالات وانفعالات منغلقة وتائهة. للعصفور دلالات، أبرزها: عشقه للحرية (الكليشيه التنظيري هذا لا يزال يعثر على ترجمة حيوية وواقعية له). لكنه عشق محطّم ومكسور. فالمسألة أعقد من هذا وأخطر. الألم الذاتي غير موصوف، لا بكلمات ولا بصُور، وإن أبرزت الأخيرة حالات عصيّة على الوصف الكلاميّ للألم.
الجامع بين الفيلمين؟ تلك الرحلة الخطرة التي تُعرّي وتفضح، فتنكشف بشاعة نفوس وأحقاد (بشع) في مقابل ظهور «خلاص» ما لعلّه المَخرج المطلوب لبداية جديدة (الناس العصافير). أودري كاموزي (أناييس دوموستييه) شابّة تعمل خادمة في فندق «هيلتون» داخل مطار شارل ديغول. غاري نيومان (جوش شارلز) رجل أعمال أميركي يقوم برحلة سريعة إلى باريس للبحث في مهمّة كبيرة يُفترض تحقيقها في دبي قبل نهاية العام. الشابّة تعاين أحوال الناس من خلال أغراضهم في غرف الفندق. رجل الأعمال ينقلب رأساً على عقب في لحظة واحدة: يتخلّى عن كل شيء كي يبدأ مرحلة جديدة من حياته. هما لا يلتقيان إلاّ في الدقائق الأخيرة. رحلة كل واحد منهما مليئة بمطبّات وانكشافات وتحدّيات، تأخذهما إلى ما يُشبه أماناً ملتبساً. شخصيات الفيلم الهندي موغلة في بشاعة ذات أنواع مختلفة. اللعبة السينمائية المتماسكة (وإن لم تبلغ مرتبة الإبهار الكامل) تضع تلك الشخصيات وحالاتها وقصصها في تداخل مُعقّد، يكشف تدريجاً مكامن البؤس في الروح والنفس والعلاقات.
فيلم التحريك «حجارة في جيوبي» غرق في نوعين من الثرثرة المُضجرة، متمثّلين بالكلام والصُور. السرد الحكائي مرويّ بصوت ذي نبرة حادة. الصُوَر عاجزة، بغالبيتها الساحقة، عن ابتكار السياق القصصي، لشدّة إسرافها في ما يُشبه «الترجمة الحرفية» للكلام. الرغبة في تقليد «بيرسيبوليس» (2007) لمرجان ساترابي دونها عقبة اختراع تجديدي للصورة المتحرّكة، وإن كانت الشخصيات والحالات مرسومة بطريقة مختلفة. حكاية ممتدة من عشرينيات القرن المنصرم، وتفاصيل متداخلة ومتشعّبة، ترتبط كلّها بحكاية الانتحار المعلّق لنساء العائلة على مرّ التاريخ، وبتحدّيات الحياة والمجتمعات الممتدة من الدول الاشتراكية إلى الولايات المتّحدة الأميركية.