إنَّ العنوان الآخر لشهر رمضان، هو "شهر الصيام"، الَّذي أراد الله فيه للإنسان أن يقوم بأداء هذه الفريضة، من أجل أن يؤكّد له إنسانيّته في مواقع السموّ عن الأجواء المادية التي تشدّه إلى الأسفل، لأنّ المطلوب فيه أن يرتفع إلى الأعلى، بأن يكون روحاً يحرّكه الجسد في روحيته، لينال رضى الله، وليعيش القرب من الله، حتى يعيش المعاني الكبيرة الصافية المشرقة من خلاله، لأنَّه كلما اقترب من الله أكثر في أجواء شفافية الروح وطهارة الجسد، اقترب من الانفتاح على المسؤولية الكبيرة التي تدعوه إلى أن يحمل في وعيه معنى الخلافة عن الله في إدارة شؤون الحياة من حوله.

إنّ قضيَّة الصِّيام هي أن تخفّف ثقلَ الضّغط الجسدي على مواقع الإرادة في شخصيَّتك، أن لا تُثقل الرغبة حركتَك نحو أهدافك، أن لا يسحقك الحرمان الَّذي تعيشه في بعض ساحات التّحدي لتسقط أمامه، لأنَّ إحساسك بالجوع الغذائي أو الجنسي، وبالظمأ المحْرِق للحاجة المخزونة في أعماقك، قد يُسقطك أمام الآخرين، فتفقد طُهرَك، وتبتعد عن استقامتك، وتموت قضاياك، وتنسحق إنسانيتك.

إنّ قضية الصِّيام، هي أن تكون إنسان الله، بدلاً من أن تكون إنسانَ الشَّيطان. أن تعرف كيف تعيش سكينة الروح وطمأنينة القلب، بدلاً من أن تحترق بنار الشهوة، وسُعار الأطماع. أن تشفي روحك حتى تطير إلى الله، وأن يخفّ جسدك حتى يحلّق في آفاق المعنى الكبير الَّذي يتحمّل مسؤولية الحياة كلها، ولعلّ هذا هو الذي يفسّر الحديث القدسي: "الصَّوم لي وأنا أُجزي به".

وقد قيل: "شهر رمضان هو شهر الإسلام"، ففسّر البعض كلمة الإسلام بمعناها اللغوي، أي الطاعة والانقياد لكثرة الطاعات في هذا الشهر.. ولكنّ هناك تفسيراً آخر، وهو دين الإسلام، لكون افتراض صومه من خصائص هذه الأمة.. فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصّادق(ع) قال: "إنَّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا"، فقيل له: فقول الله عز وجل:{يا أيّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكُم الصيام كما كُتِبَ على الذين من قبلِكُم}[البقرة:183]؟! فقال: "إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضّل به هذه الأمة، وجعل صيامه فرضاً على رسول الله(ص) وعلى أمته".. وروي عن النَّبي محمَّد(ص) أنه قال: "رمضان شهرُ أمتي"، وقيل عن التَّشبيه في الآية، إنه بلحاظ مطلق الصوم.

وقد نلاحظ على ذلك، أنَّ الظاهر من إضافة الشَّهر إلى الإسلام، أنَّ للشهر علاقة بالإسلام بمجمله، لا بلحاظ فريضةٍ من فرائض الإسلام المفروضة فيه، ما قد يوحي إلينا بأنَّ ذلك مرتبط بنزول القرآن فيه، الذي يمثّل الوجه البارز للإسلام في عقيدته وشريعته، وبالحشد الروحي من الصيام والصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، الذي أُريد له أن يقوم بدور كبير في إعداد الإنسان المسلم في هذا الشهر للسنة كلّها، من خلال ما يمكن أن يحقّقه البرنامج الرمضاني، من تعبئةٍ فكريةٍ روحيةٍ تترك تأثيراتها في حركة الإسلام في الحياة كلها في جميع فصول السنة.. الأمر الَّذي يجعل منه شهر الإسلام الَّذي يتحرَّك فيه الإسلام بكل أبعاده، والله العالم... 
[كتاب: شهر رمضان رحلة الإنسان إلى الله].