إن دعوة القرآن الكريم في شهر القرآن وفي غيره من الشهور إلى وحدة المجتمع الصائم لا يجدر أن نقتصر في فهمها على أنها مجرد دعوة نظرية إلى السلام بين البشر.. لأن السلام ليس منفصلاً عن غايات القرآن السامية التي تمكّن المجتمع الإنساني من تحقيق معنى وجوده على هذه الأرض المذعورة، والتي ما انفكت على لسان أبنائها الأحرار تنشد وحدتها الضائعة بشرط السلام المشروط قرآنياً بسلام الإنسان مع ربه وسلام الإنسان مع نفسه وسلام الإنسان مع أخيه الإنسان، وهو سلام ينبض في قلب المؤمن كما نبضة الإيمان في صومه وصلاته وفق رؤية تربوية ترى في اختبارات الصيام وسيلة وميداناً لاجتراح معجزة الوحدة الإنسانية الكبرى بوضع فاصلة جوهرية بين مفهوم الخصومة ومفهوم العداوة فليس كلّ خصم هو العدوّ وليس كلّ عدوّ هو الذي يعتدي عليك من خارج ذاتك فلربما كان العدو في داخلك هو نفسك الأمارة بالسوء أو نفسك المنغلقة على هواها فلا ترى في التنوع والاختلاف بين الناس إلا مصدراً من مصادر التنازع والاحتراب.. لذلك كانت عبادة الصوم دافعاً إلى وعي تجلياته في الفكر والاجتماع في مشهد يبني السلام على أفق مفتوح للوحدة المخضوضرة بغذائها الروحي والثقافي لنقل المجتمعات البشرية من واقع الفتن والانقسام والحروب إلى واقع
الوحدة التي لن يُكتب لها الاستمرار والبقاء إلا إذا كانت محصنة بوحدة التقوى وتقوى السلام..
وما من شك في أن هذه التقوى التي توجت آيات الصوم في فلسفته ورسالته هي الضامن الوحيد لجمال الوحدة وكمالها.
والسؤال إذا كانت هذه الوحدة سواء في إطارها الإنساني الشامل كهدف بعيد أو في إطارها الإسلامي وحدة المسلمين هي الهدف الأقرب لتقديم صورتها ومثالها إلى العالم فإن الأشكال المتصورة لإنجاز هذه الوحدة لا تكاد تخرج عن صيغ ثلاث:
1- صيغة فرض هذه الوحدة على المجتمع البشري من خلال سلطة عليا قادرة ومالكة لوسائل القوة والقمع فيما شهدناه من لافتات العولمة وشعاراتها.
2- صيغة التوازن، أي الوحدة التي ينتهي إليها المجتمع البشري بصورة تلقائية عندما يتم التوازن بين قوى الصراع داخل كل مجتمع على حدة وبين المجتمعات البشرية المختلفة. وهي صيغة محكومة باستمرار لنظام المصالح المتقلب والمتغير بانقلابات مراكز القوة في العالم.
3- صيغة الإيمان بتوحيد الله سبحانه ووحدة الإنسان المتألقة أبداً بتقديس كرامته وهي صيغة مفتوحة على الحوار والجدال بالتي هي أحسن وهذه الصيغة هي صيغة إسلامية يقترحها القرآن بمفاهيمه عن التعارف والتعاون والتكافل والشهودية والإيثار. وهي صيغة مثلى قد نجد بعض تعبيراتها في مواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولي في مجتمع الغرب.
 غير أن إشكال هذه – الوحدة – فيما نشهده من مذابحها بالفيتو الأمريكي تحت قباب مجلس الأمن ستظل قتيلة مذبوحة باسم الحضارة الجديدة وقانونها الدولي الملتبس المتهم بازدواجية المعايير ومن وراء الكواليس فإن أخشى ما أخشاه أن يصبح المرادف الميداني لهذه الحرب العالمية على الإرهاب حرباً عالمية ضد وحدة الإنسان وسلامه المفقود. وما بين ظاهرة النفاق السياسي في الغرب وظاهرة النفاق الديني في الشرق سينتهي العالم إلى كارثة محتومة ودمار مخيف ولكن ليس بأسلحة الدمار الشامل وإنما بأسلحة الخداع الشامل والظلم الشامل والفساد الشامل
لذلك كله فإن عقيدة الإيمان بالتوحيد الذي يتسع للجميع هي نقطة الارتكاز لتحقيق قيم الوحدة والعدالة والمساواة بين الناس كل الناس ولذلك يصبح الاستناد إلى العوامل الروحية والثقافية هو السلاح الأمضى لمكافحة الإرهاب باقتلاع الشر من صدر عدوك باقتلاعه من صدرك ليستقبل العالم فجر الحضارة الواحدة وعلى ضفافها تتنوع الثقافات المفتوحة على بعضها بالحوار والتعارف وبذلك يصبح الصوم هو الفردوس الذي يزهر من منابت السلام وجذوره ليتفتح برائعات الوحدة المهمومة بإنتاج معرفة متجددة لأشكال الاتصال والتواصل بين الدول والمجتمعات والأفراد. ولن يتيسر إنتاج هذه المعرفة إلا بتطور فقه الصيام من فقه يسهب في تعداد المفطرات المنصوص عليها لصحة صيام الجسد إلى فقه يفتح صوم المعدة على وجوب صيام الأذن والعين واليد واللسان وإذا كان الصوم بمعناه اللغوي والاصطلاح يقودنا إلى مفهوم واحد هو الامتناع عن المباح والحلال فمعنى ذلك أن فلسفة الصوم إنما تهدف إلى تصليب إرادة الصائم وتربيته على امتلاك قدرة الامتناع المقدس عن الحرام. ومن أعظم الحرام الظلم والقتل والبغي والفتنة والبهتان وسواها من المخالب التي تفتك بالوحدة والسلام.