دَّتي لأمي كانت تحيك بسنَّارتها أثواب العرائس على هديل المواويل الحزينة والترانيم الشجيَّة.. وجدِّي لأبي كان يغرس شتلاته في حقلٍ من حقول الصوت والمدى...وأمي أفرغت صُرَّة الكعك ليلة العيد وهي تنتقل ما بين رخام الموت وأقفاص الشهداء ، مرتِّلة أجزاءاً من سُوَر الشيوخ والأغنياء...وأبي كان ينشر وجهه على أرصفة أحزمة البؤس ، ليمسح زفت المدينة ، ويلمِّع المصابيح النائمة من وهج الزيت...سبق لنا أن كنَّا صغاراً نلعب تحت شجرة التين والزيتون ، ونجثو على ركبتي جدَّتي وتحدو لنا الحداء ، وتقصُّ علينا القصص والحكايات ، التي تعلَّمتها من سلفها الماضين ، أنَّ البعبع سيأكلنا إن عصينا الله ، وتخوِّفنا من الموت والقبر ، ويوجد بعبع ضخم ، وعقرب يلسع ، وأفعى كبيرة تلدغ ، ونار تشوي الوجوه والأبدان ، بعبع واقف لنا بالمرصاد ، يقابلنا بأنياب محدودة ، وأظافر مسنَّة ، ليمزقنا أرباً أرباً ، فيأكل لحومنا، ويشرب دمائنا...بعد أن أصبحنا كباراً وفات ذلك العهد ، ومات ذلك الزمن ، غير أنَّ بعبعه لم يمت ، بل تقمَّص في بعابع منتشرة.. منها : الدين والكنيسة والشريعة ، وحرَّاسها الشيوخ والرهبان والصلبان ، فتراهم لا يملُّون ولا يكلِّون من إلقاء المواعظ والخطب والدروس وبذل النصائح ، صارخين مهلِّلين ومولولين أيها الناس "هذِّبوا أخلاقكم ، نظِّفوا قلوبكم ، طهِّروا سرائركم " وإذا وجدوا الناس لا يستمعون لمواعظهم ونصائحهم ، إنهالوا عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وتوعدوهم بالنار الحامية ، وعذاب الله الذي لا يًردُّ ولا يُبدَّل...تلك البعابع يعيشون على موائد الزعماء والأغنياء والمترفين ، والبعض منهم يعتاش من الأخماس والزكاة وبيع قطع في السماء والجنة ، من دم الفقراء ولحم المحتاجين ومال المحرومين.. ويحرصون على إرضاء الحكام والزعمات والأثرياء ، وأولياء نعمهم ، فتراهم ينزلون على الفقير بالقارعة ، وما أدراك ما القارعة ، فيما يغضُّون عن أسيادهم وتعسُّفهم ويدعون لهم بالصحة والعمر المديد..بعابع تراها ترفع مسؤولية الظلم الإجتماعي عن المنعمين والحاكمين وتضعه على كاهل المظلومين ، إن تركت الواجب الديني فعاقبتك وخيمة ، ونار حامية سلَّطها رب العباد...بهذه المعيارية البعبعية ترى الطرفين غارقين في العيش والترف وسط إستغفار هؤلاء الفقراء  وإنابتهم وتوبتهم ، وعندما ترى خطأ الحاكم ويشهد بذلك أكثر الناس ، يأتي الواحد منهم قائلاً ومبرِّراً إنه إجتهد فأخطأ ،فلأول أجران ، وللثاني أجرٌ واحد...فيما ينزلون على الفقير عذاب وعذابين ، ونارٌ ونارين..والمصيبة الأعظم إذا أتى الفقير برأي آخر قالوا عنه زنديقٌ خارجٌ ومارقٌ..وإذا إعتدى أحد الأغنياء أو الزعماء على بقَّالٍ من بقاقيل السوق ، فتلك مصيبة كبرى على البقَّال وحده ، ونزلوا عليه بالويل والثبور ، وعظيم الأمور ، وخراب الدور...هذا عين ما حذَّر منه رسول الله (ص) عندما توعَّد قومه وأنذرهم بالعذاب.. قال: " لقد هلك الذين كانوا قبلكم ، إذ سرق فيهم القوي تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدَّ "...وما قاله أمير المؤمنين علي (ع) : "عجباً للسلطان كيف يُحسن ، وهو إذا أساء وجد من يُزكِّيه "....فالدِّين ليس بعبعاً ، إنما هو هداية وسلوك وأخلاق ، ولا واسطة بين الإنسان وخالقه ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد..وأي إنسان أدرك الدين على حقيقته ، يدركه أنه رسالة إنسانية تجاوزت حدود البعبع وحدود الفرد والمذهب والطائفة ، بل هي غايةٌ تقصد لذاتها ، لا وسيلة للتخويف ، ولا أداة للميول إلى الملذَّات والشهوات.