تتسارع الأحداث في المنطقة حتى يصعب على المراقبين فهم ما يجري، في ظل تضارب في مضمون المعلومات الواردة من الميدان العراقي، مقابل اعتراف بانهيارات متتالية للمعارضة السورية في مشهد يطرح أكثر من علامة استفهام حول ما اذا كان المقصود هو تظهير خريطة جيوسياسية للمنطقة العربية أو أنها جولة جديدة من عض الأصابع لتعزيز مواقع النفوذ الدولي بعد سلسلة من التحولات أسس لها الدخول الروسي على خط القرار الدولي، خصوصاً في مرحلة ما بعد سقوط المشروع الغربي في سوريا امتداداً إلى لبنان والساحل المتوسطي الخاضع في هذه المرحلة لمنظومة الغاز والتنقيب والبحث والاستخراج.
ما يدعو إلى القلق هو انفجار المنطقة دفعة واحدة، فما شهده العراق منذ حوالي الأسبوع معطوفاً على أحداث ليبيا وتطوراتها الميدانية، اضافة إلى ما حققه الجيش السوري على الجبهة الشمالية من تقدم متواصل انتهى إلى اعادة السيطرة على "كسب" ومرتفعاتها الاستراتيجية المطلة على لواء الاسكندرون، وهذه تطورات متصلة لا يمكن أن تأتي من فراغ أو بالصدفة، بل استناداً إلى أجندة لا يبدو أن واشنطن بعيدة عنها خصوصاً بعد ما كشفته تقارير استخباراتية غربية من دور فاعل لكل من تركيا وهي واحدة من الدول المنضوية تحت لواء حلف شمال الأطلسي والسعودية الحليف الخليجي الاستراتيجي لواشنطن، على غرار استخدام جيش "دولة الاسلام في العراق والشام" للأراضي التركية للعبور من سوريا إلى العراق كما من بعض الدول الخليجيةإ الداخل العراقي، بالاضافة إلى تمويل مباشر ومعلومات مستقاة من قبل الاستخبارات السعودية لا بد من الحصول عليها لتحقيق مثل هذه النتائج، لا سيما ان وجود مثل هذه الكمية من السلاح في محافظة نينوى العراقية، ناهيك عن وجود مثل هذه الكميات من الأموال النقدية في مصارف الموصل ليس من باب الصدفة ولا يندرج عادة في سياسات الدول العسكرية والنقدية.
في هذا السياق، يكشف تقرير غربي عن دور تركيا في العراق فيتوقف عند الوضع الاقتصادي التركي المتردي وحاجتها إلى متنفس استثماري يعيد لها بعضاً من الاحتياطي الاستراتيجي الذي فقدته بفعل تدخلها بالأزمة السورية ووصول مشروعها الى الحائط المسدود، فسيطرة "داعش" على حقول النفط في الموصل ونينوى يعني أن هذا التنظيم يحتاج إلى تصريف الانتاج عبر الأراضي التركية نظراً لعجزها عن تصريفه عبر معابر ثانية كايران أو سوريا بحيث تصبح تركيا ممراً الزامياً للنفط العراقي، وهذا ما يدر عليها أموالاً طائلة ويعيد اقتصادها إلى دورته الطبيعية كما يعيدها إلى دائرة الدور الفاعل الذي يحتاجه الغرب للاستفادة من نفط العراق وثرواتها الطبيعية، خصوصاً أن البنزين هو الاغلى في تركيا كما أن استهلاك الغاز يشكل حوالي العشرين بالمئة من مجمل الدخل الفردي التركي، وهذه أرقام عالية تستوجب تدابير عاجلة للحد من الانهيار الاقتصادي وتداعياته.
أما المصلحة السعودية فتتجلى أولاً باعادة التوازن مع ايران من خلال حشرها في زاوية الأمن المتردي على حدودها، وثانياً رد الضربة لسوريا بدليل أن هذه الأحداث والتطورات السريعة جاءت بعد ساعات على اعلان فوز الرئيس السوري بشار الأسد لولاية ثالثة وبعد أيام على اعادة تثبيت وضع نظامه من خلال الميدان، وهذا عامل لا يمكن أن يتزامن بفعل الصدفة المطلقة ولا من باب التوقيت العشوائي، إنما بعد اعتراف دولي غير مباشر بنصر مثنى الأضلاع الأول للنظام السوري والثاني لايران من خلال الاعلان عن جولات مفاوضة جديدة مع واشنطن أولاً ومع الدول الغربية ثانياً، وتحديد موعد شبه نهائي للتوقيع على الاتفاق النووي ما يعني نهاية الدورين التركي والسعودي على حساب تسوية كبيرة تمتد من اسيا إلى أوروبا مروراً بالشرق الأوسط.