الحملة التي تعرّض ويتعرّض لها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لها أهداف عدة وفي طليعتها ترهيبه وترهيب الطبقة السياسية للحؤول دون استكمال التوجّه الذي أرساه في زيارته التاريخية للأراضي المقدّسة.

عندما أطلق البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير نداءَ تحرير لبنان من الجيش السوري وجد مَن يتلقّف نداءه من الطبقة السياسية على رغم وقع الاحتلال وثقله الذي كان يُترجَم بحظر العمل السياسي وما كان يستتبعه من ملاحقات ومضايقات وتهديدات، فانطلقت دينامية مسيحية تقاطعت مع ديناميات مدنية وإسلامية أدت في نهاية المطاف إلى إخراج الجيش السوري من لبنان.

وما أطلقه الراعي في زيارته التاريخية يجب على القوى السيادية أن تتلقّفه أيضاً، لأنّ ترك البطريرك وحيداً يفرغ زيارته من مفاعيلها ومعانيها ومضمونها ويحوّلها إلى زيارة يتيمة ومعزولة ويُحمِّل هذه القوى مسؤولية تفويت الفرصة أمام استعادة المبادرة على خطين:

الخط الأول، الخروج من الأفق اللبناني إلى الفضاء العربي، لأنه يخطئ من يعتقد أنّ الحسم بين الخيارين المتصارعين يتمّ في شوارع بيروت، إنما التحدي الحقيقي هو في الدخول على خط الصراع في المنطقة، خصوصاً أن لبنان ليس جزيرة معزولة، و»حزب الله» لن يسمح بتحييده، وطالما مصيره سيتحدد على أساس ملامح التسوية أو المواجهة المفترضة، من الأفضل أن يكون الفريق الداعي للسلام في لبنان والمنطقة من اللاعبين لا المتفرّجين، تجنباً لأيّ تسوية محتملة على حساب السيادتين اللبنانية والعربية.

ومن هنا فإنّ قوى 14 آذار مدعوّة للخروج من مرحلة تصريف الأعمال التي دخلتها مع انطلاق الثورة السورية من أجل الدخول مجدداً إلى عمق القضايا الوطنية والعربية، لأنّ الوقائع أثبتت أنّ رئاسة الجمهورية لا تحسم في البرلمان، والحكومة لا تتشكّل وفق نتائج المشاورات النيابية، والسيادة لا تتحقق بتطبيق الدستور، وحصرية السلاح لا يؤمن بالحوار اللبناني-اللبناني.

ومسؤولية هذا الواقع الذي أصبح فيه اللبناني منفّذاً لا مقرراً أو صانع سياسات بلده تقع بطبيعة الحال على «حزب الله» الذي أدخل لبنان في حرب محاور كونه يشكّل جزءاً لا يتجزأ من المحور الممانع. وبالتالي، الردّ لا يكون بدعوته إلى تطبيق «إعلان بعبدا» وتحييد لبنان وكل هذه المعزوفة المبدئية التي لا أفق لها، إنما الرد الفعلي يكون بالمساهمة الديبلوماسية-السياسية في دفع السلام الفلسطيني-الإسرائيلي قُدماً، كما في تسريع إنهاء الأزمة السورية واستطراداً الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة.

فالمعضلة مع «حزب الله» لا تعالج على طاولة الحوار، بل علاجها يكون في إنهاء النظام السوري وانجاز السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وبالتالي، المسار الذي أطلقه الراعي يجب أن تحوّله قوى 14 آذار إلى دينامية تبدأ بكسر حاجز الخوف عبر زيارة أبو مازن في رام الله وأحمد الجربا على أيّ بقعة سورية محرّرة وتجوب العواصم العربية والغربية.

فقوى 14 آذار اليوم هي في الموقع المتلقّي لا المبادر، وهي تقدّم عملياً أفضل خدمة لـ«حزب الله»، والحملة التحريضية التي خاضها الحزب ضدها على خلفية دعمها للثورة السورية كلّ الهدف منها كان دفعها للانكفاء إلى الداخل اللبناني، لأنّ الحزب يدرك جيداً أن الفريق المنتصر في الخارج هو الذي يحكم لبنان، ولذلك دفعها عنوة إلى عزل نفسها عن صلب القضايا الرئيسية.

الخط الثاني، الدخول على خط المواجهة الثقافية التي تتجاوز بأهميتها المواجهة السياسية التي تبقى قاصرة ما لم تُسقط كل المفاهيم التي أرساها محور الممانعة منذ العام 1990 على قاعدة أنّ هناك فريقاً منتصراً وآخر مهزوماً، وأنّ الوطنيّ هو الملحق بـ»حزب الله» والعميل هو الذي يعارض سياسة الحزب، إلى درجة أنه نجح في تحويل مقاومته إلى مسألة طبيعية وضرورية ولبنانية، فيما هي تستخدم الساحة اللبنانية لأغراض إقليمية وتشكل خروجاً عن اتفاق الطائف والدستور وضرباً لميثاق العيش المشترك، حيث كان يفترض بالحزب تسليم سلاحه أسوة بسائر الميليشيات اللبنانية.

ولا بد في هذا السياق من التذكير بالعنوان الذي رفعته قوى 14 آذار في الذكرى الثالثة على انطلاقتها بأنّ المواجهة هي بين ثقافتين: ثقافة الموت وثقافة الحياة، كما ثقافة الخوف والتطبيع مع الأمر الواقع والتسليم بأدبيات الفريق الممانع المتصلة بتحديد من هو العدو ومن هو الصديق، وأنّ لبنان هو وطن المقاومة لا الرسالة، وأنّ دوره إزالة إسرائيل من الوجود...

وقد شكل لقاء البطريرك مع عائلات «جيش لبنان الجنوبي» مناسبة لإعادة خلط المعايير والتأكيد أنّ أحداً لا يحقّ له تصنيف الناس بين وطني وعميل، وخصوصاً «حزب الله» الذي ينفّذ أجندات لا علاقة للبنان بها، وآخرها قتاله ضد شعب شقيق هو الشعب السوري، وهذا الحق يقتصر على الدولة وحدها التي يفترض بها النظر بالظروف الوطنية التي أدّت إلى دخول إسرائيل وإقامة الشريط الحدودي، لأنّ ما تبع ذلك كله تفاصيل وهو نتيجة لا سبب.

وبالتالي، يجب مقاربة الأسباب التي أدّت إلى تحويل لبنان إلى مزرعة وفتح الحدود في العام 1969، لا معالجة النتائج والقشور، هذه الأسباب التي ما زالت قائمة بفعل تغييب «حزب الله» المتواصل للدولة في لبنان.

وأمّا عجز «التيار الوطني الحر» عن حلّ هذه القضية بعدما كان حدّدها هدفاً في صلب وثيقة التفاهم ودعا إلى حلّها على أساس صحيح، وهو «الأخذ في الاعتبار كل الظروف السياسية والأمنية والمعيشية المحيطة بهذه القضية»، فهو ناجم عن أنّ التفاهم بين الطرفين الذي بدأ ورقياً على قاعدة الشراكة أدى عملياً إلى ذوبان التيار بالحزب والتحاقه به بشكل كامل، وهذا أمر طبيعي ليس فقط نسبة لميزان القوى، إنما لأنّ التيار تخلّى عن خطابه الوطني مقابل مكتسبات سلطوية.