لهذا “الفراغ” الرئاسيّ فضيلةٌ كاشفة هي أنها تدفع المسائل من الشكل إلى المضمون، ومن الإطار إلى الجوهر. والمضمون والجوهر مفادهما أنّ لا رئاسة فعليّة في لبنان، ولا جمهوريّة بالتالي، ما دام هناك طرف أكثر تسليحاً وقوّة من الرئاسة والجمهوريّة، وما دام هناك “سيّد” هو أقوى من أيّ رئيس، يستمدّ سلطته من المقاومة، لا من الدستور أو التفويض الشعبيّ.
إذا ما أزحنا التفاصيل والقشور جانباً بدا أنّ هذا موضوع المواضيع، وهو أيضاً عقدة العقد. فبموجب التكيّف مع ذاك الواقع الأعوج أمكن لرؤساء ما بعد اتّفاق الطائف أن يكونوا رؤساء، خصوصاً وأنّ حزب الله آنذاك كان مشفوعاً أيضاً بقوّة الوجود العسكريّ والأمنيّ السوريّ. لكنْ في السنتين الأخيرتين من عهد ميشال سليمان بات يتبيّن بوضوح أنّ التورّط العسكريّ لحزب الله في سوريّا أحدث تحوّلاً نوعيّاً بأن جعل التكيّف هذا بالغ الصعوبة ومكلفاً جدّاً. نستدلّ على ذلك أيضاً في أنّ الانتخابات البرلمانيّة استحالت ومُدّد للبرلمان، فيما غدا تشكيل الحكومة، فضلاً عن صعوبته الفائقة، جمعاً للنقائض يستبعد كلّ فعاليّة جدّيّة.
قبل اليوم كانت حيلة الازدواج في الحكم ممكنة. اليوم صارت تقارب الاستحالة.
لهذا يبدو السجال الراهن في “الفراغ” شكليّاً جدّاً، لا يخفّف من شكليّته الضجيج والانهماك اللذان يحفّان بالكلام عنه. ذاك أنّ “الامتلاء” الذي عرفناه من قبل، على ما كتب الزميل حسام عيتاني في “الحياة”، لم يكن أكثر من نقيض لغويّ لـ”الفراغ”. ففي ظلّ “امتلاء” كهذا عاش كلّ ما هو سيّء في الواقع اللبنانيّ ونما وترعرع.
فما الذي يستطيع الرئيس، حتّى لو كان رئيساً “قويّاً”، أن يفعل اليوم ما دام أنّ قرار الحرب والسلم ليس في يده؟ أكثر من ذلك، هو لا يستطيع أن يردع حزب الله عن المشاركة في الحرب السوريّة، لكنّه، فوق هذا، عليه أن يساوم الحزب في قضايا تمتدّ من التعيينات إلى الاقتصاد.
صحيحٌ أنّ مجلس الأمن دعا إلى انتخاب رئيس جديد للبنان، كما شدّد وزير الخارجيّة الأميركيّ جون كيري على هذه الضرورة. بيد أنّ الترتيبات الدوليّة والإقليميّة، في حال وجودها، لن تفلح بأكثر من إنتاج رئيس آخر لا يكون رئيساً وبـ”سدّ الفراغ” كيفما اتّفق. ففي ظلّ الازدواج السلطويّ، لا سيّما بعد التورّط السوريّ لحزب الله، لن يكون “الامتلاء” إلاّ كاذباً. أمّا الجواب عن تساؤل المتسائلين: من الذي “يستحقّ الوصول إلى بعبدا؟”، فهو ذاك الذي يستطيع استرجاع السلطة إلى حيث ينبغي أن تكون.
في هذه الغضون، نتسلّى بقشرة “الفراغ”، فيما حزب الله وحده يذهب إلى اللبّ مبقياً السلطة الفعليّة في يديه!