المحضر الذي نشرته «الجمهورية» عن اللقاء بين المؤسسات المارونية والجنرال ميشال عون صحيح ١٠٠٪، والصحيفة ليست في وارد اختلاق الأخبار، كما أنها استقت معلوماتها من مصادر عدة شاركت في هذه الجلسة، فضلاً عن أنّ المشاركين يعلمون تمام العلم أنّ ما نُشر دقيقٌ وأنه ليس سوى القليل ممّا نُشر، وأنّ التوضيح الذي صدر بروتوكوليّ من منطلق أنّ المجالس بالأمانات.

لو قال عون هذا الكلام منذ سنة أو أكثر لما أثار استغرابَ أيٍّ كان، لأنّ ما يقوله اليوم في الغرف المقفلة، كان يصرِّح بأكثر منه في الإعلام، ولكنّ التموضع الجديد الذي اتبعه تماشياً مع ترشحه الرئاسي جعله ينتقل من دور الفريق إلى دور الوسيط تسهيلاً لوصوله إلى الرئاسة الأولى، وبالتالي من الطبيعي أن يبدي امتعاضه من تسريب هذا الجوّ، لأنه يُظهره مجدداً بدور الفريق وينسف كلّ المسار الذي اعتمده، فضلا عن أنه يؤدي إلى إحراج تيار «المستقبل» الذي سيضطر أمام مواقف من هذا النوع الى تعليق الحوار معه بالحدّ الأدنى.

وإثر نشرِ المحضر أبدت أوساط عونية عتبها على تسريب أجواءِ جلسةٍ كان يُفترض أن تكون بعيدة عن الإعلام، حيث يسمح فيها كلّ شخص لنفسه بأن يتكلم من دون قيود وضوابط و»كفوف»، وطالبت، بإلحاح، بإصدار توضيحاتٍ ونفي، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا قال عون الكلام الذي قاله أمام مجموعة واسعة وهولا يستطيع أن يضمن عدم نقله أو تسرّبه؟ وهل تعمّد إطلاق هذه المواقف بغرض التسريب، ولماذا؟ وهل إفصاحه عن مكنونات قلبه وعمق تفكيره هو نتيجة ارتياحه لجوّ الجلسة ومَن فيها؟

وفي هذا السياق لا بدّ من الإضاءة على احتمالين أساسيّين:

الاحتمال الأوّل، إيصال رسالة الى «حزب الله» بأنه ما زال على مواقفه وقناعاته، خصوصاً أنّ هذا الكلام قيل أمام مجموعةٍ مسيحية ومارونية تحديداً، بمعنى أنّ عون لم يطلقه مسايرةً أمام وفد قريب من الحزب، إنما هو وفد يضمّ أشخاصاً من كل الاتجاهات والميول، ويدخل ضمن إطار النقاش المسيحي- المسيحي في الخيارات والاتجاهات الكبرى، حيث بدا عون كأنه يقنعهم بوجهة نظره أو يسوّق لهذا الخيار.

ويبدو أنّ الجنرال قد وجدها مناسبةً لتبديد أيّ تشكيكٍ في مواقفه من قِبَل الحزب الذي رسم أخيراً علاماتِ استفهامٍ كبرى حول التحوّل الذي قام به، فشكلت هذه المناسبة فرصةً لإفهام مَن لا يفهم أنّ التحالف الانتخابي شيء والتحالف الوطني شيء آخر مختلف تماماَ، وأنّ الضرورات الانتخابية تبيح المحظورات الوطنية، وأنّ ما يقوله في الجلسات المغلقة يختلف عن مواقفه المعلنة، وذلك بغية تقطيع الانتخابات الرئاسية.

الاحتمال الثاني، هو أنّ ارتياح عون لمسار الجلسة والمشاركين فيها دَفعه، ربما، بغير قصد، إلى اعتبارهم ضمن بيئته الحاضنة، فسمح لنفسه بالخروج عن جدول الأعمال المخصص للجلسة والمتصل بالبحث في بالأزمة الرئاسية وكيفية تقصير مرحلة الفراغ لانتخاب رئيس جديد، والدخول في عمق القضايا المطروحة والتحديات القائمة، حيث عبّر بكل وضوح عن قناعاته الفعلية من التحالف مع «حزب الله» إلى الأزمة السورية التي جاءت التطورات، بالنسبة إليه، لتؤكّد صحته في اعتبار البدائل عن الرئيس السوري أسوأ منه.

ومن هنا ما قاله عون يجسّد توجّهاته الفعلية، ومن يعرف عون يعلم أنّ هذا النوع من النقاش هو الأحبّ إلى قلبه، ولا يتطلب جهداً كبيراً لدفعه الى التعبير بكل حرية عن أفكاره، ولكنه لم يضع في حسبانه احتمال تسريب جوّ الجلسة بهذا الشكل، علما أن التسريب في هذه الحال ضروري لوضع النقاط على حروف توافقيّته التي بدت أنّها عابرة ولا تنمّ عن قناعة فعلية بتحييد لبنان والوقوف على مسافة واحدة من المحاور الخارجية والداخلية، كما أنّ الثلاثية التي طرحها أظهرت أنها مجرد دعوة للرئيس سعد الحريري إلى التسليم بالخيار الاستراتيجي لـ»حزب الله».

وهناك من قال إنّ التسريب أربك عون، لأنه في حال أصدر نفياً فإنّه سيوقع نفسه في مشكلة مع «حزب الله» الذي سيأتي من يقول له: لا يمكن الاستمرار في دعم عون بعدما تأكد أنّ قناعاته أصبحت في مكان آخر؛ وبدلاً من أن يتمسك بأفكاره قام بنفيها؛ فمن يضمن عدم انقلابه على الحزب في حال تبدّل موازين القوى؛ وبالتّالي يصبح إيصاله الى الرئاسة الأولى مجازفة غير محسوبة، إلى آخر هذه المعزوفة.

وفي حال لم يُصدر نفياً فسيحرج «المستقبل» الذي سيضطر الى ترسيم العلاقة معه بحدود العلاقة مع الحزب المتصلة بالحكومة والمحافظة على الاستقرار والتبريد السياسي.

ولكن هذا القول غير صحيح لأنّ بإمكان عون أن يعلن، بشكل واضح، أنّه، بمعزل عن قناعاته، فإنّ ما نُشر غير صحيح، وبالتالي، فإنّ رفضه التعليق ودعوته المؤسسات المارونية إلى التوضيح دليل على أن ما نُشر صحيح.

وبمعزل عن كل شيء، ليس الصراع في لبنان بين الرئيس الحريري والسيد حسن نصرالله، أو أنّ المطلوب وصول رئيس مسيحي قادر على مدّ الجسور بينهما، إنما الصراع هو صراع خيارات كبرى من النّوع الذي عبّر عنه عون في جلسته المغلقة مع المؤسسات المارونية، وبالتالي، إذا كان التوفيق على المستوى الشخصي بين الحريري ونصر الله ممكناً، فإنّ التوفيق بين الخيارين الخلافيين مستحيل، والمواجهة ستبقى قائمة الى حين انتصار أحد هذين الخيارين، ما يجعل التوفيق الشخصي مؤقتاً.

ولذلك، فإنّ وصول عون إلى رئاسة الجمهورية على أساس الأفكار التي تحدث عنها يشكل تعزيزاً وتحصيناً وتقدمّاً لخيار محور الممانعة في لبنان والمنطقة.

فعون صاحب خيار ومشروع، أو مقتنع بخيار ومشروع، الأمر الذي يجعل توافقيّته، ولو كانت صادقة، شكلية، لأنه لا بدّ من أن يُغلِّب في لحظة معينة قناعته على مسلكيته التي ستتحول مجدّدا إلى فريق وطَرَف، خصوصا في حال سقوط التهدئة مع ارتفاع منسوب التّسخين وعودة الاصطدام بين المحاور الإقليمية.

وما تجدر الإشارة اليه أنه من حق عون الطبيعي اعتناق الأفكار التي يؤمن بها والترشّح على أساسها، ولكن لا يحق له أن يعتمد خطابين «واحداً للرعية وآخر للخورية». ففي ظل الانقسام الحالي هناك من يدعو إلى انتخاب شخصية على مسافة واحدة من فريقَي النزاع لعدم تغليب فريق على آخر، الأمر الذي لا ينطبق على الجنرال عون الذي يشكل وصوله تغليباً لـ»حزب الله».

ويبقى أنّ عون فوّت في كل سلوكه الانتخابي الرئاسي على المسيحيين فرصة انتخاب رئيس تمثيلي بتخيير الكتل النيابية الاقتراع، إما له، ووفق قناعاته الفعلية، أو للدكتور سمير جعجع....