الكاتب: ريّان ماجد

المصدر: NOW Lebanon

دمت "شمس" من سوريا الى لبنان منذ سنة وخمسة شهور. اختارت منطقة الأشرفية لتسكن فيها لأنها قريبة من عملها في جمعية تُعنى بالفنّ السوري. تنقّلت بين أربعة بيوت، ثلاثة منهم في "فسّوح" والرابع قرب مستشفى "أوتيل ديو".تراوحت الإيجارات التي دفعتها بين الـ 650$ والـ 1000$. "أولّ ما وصلت الى بيروت، أصدقائي القدامى هنا كانوا يوصوني أن أقول لأصحاب الملك بحال سألني أحدهم عن ديانتي أنني مسيحية ليقبلوا تأجيري، لكن هذا الوضع تغيّر بعد فترة نظراً لكثرة الطلب على البيوت، فتغّلبت المصالح المالية والتجارية على غيرها من الهواجس، وبدأ المالكون بتأجير بيوتهم للسوريين بأسعار عالية جداً، حتى ولو لا يزال هناك من يرفض تأجير سوريين لمجرّد أنهم سوريون. يسمعون اللهجة على التلفون، فيعتذرون عن التأجير. بتعرفي تاريخ العلاقة السورية اللبنانية، قال لي أحدهم".

أخبرت شمس أن أكثر من ثلاثين شخصاً من أصدقائها استأجروا بيوتاً لهم في الأشرفية خلال السنة الماضية، وأنهم يدفعون تقريباً كل ما يجنونه على منزل لا يتناسب وضعه مع سعره، وهم يعرفون أنه يتمّ استغلالهم لكن ليس لديهم خيار آخر. قال مختار الأشرفية جرجي معماري بأن 60% من عقود الإيجار التي تُبرم في الأشرفية تسجلّ و40% ليست مسجلّة، كي لا يدفع أصحاب الملك رسوم البلدية.

الأغلبية الساحقة من سكان البناية التي تعيش فيها شمس والمؤلفة من ثمانية طوابق هي من السوريين. "هناك فنّانون وصحافيون وباحثون وعاملون في جمعيات...". هم ليسوا "مشاريع إرهابيين وقنابل موقوتة" كما روّج البعض، أضافت شمس.

خالد، صحفي سوري، انتقل من منطقة الحمرا الى الأشرفية منذ سنة تقريباً. فالجوّ في الحمرا كان مستفزّاً له حسب وصفه بسبب تواجد "القوميين السوريين" في الشارع الذي كان فيه. يسكن الآن في فسّوح، يدفع 800$ أجار غرفة وحمّام ومطبخ صغير. "حوالي عشرين من أصدقائي يعيشون في الحارة ذاتها".

أكثر السوريين الذين يسكنون في الأشرفية توزّعوا على أحيائها القديمة التي تشبه "الحارات"، على الجعيتاوي وفسّوح والرميل. "معدّل أعمار الساكنين فيها ستون عاماً. كلّ من هم تحت الستين من الساكنين اليوم هم سوريون"، قالت "شمس" ضاحكة.

ترك معظم الشباب الذين وُلدوا في الرميل مثلاً هذه المنطقة، تزوّجوا وسكنوا خارجها. أغلب الذين بقوا فيها متقدمون في السنّ. هذا ما قاله لنا أيضاً رجل سبعيني، تردّد بداية في الحديث إلينا ظنّاً منه أننا من "شهود يهوا". كان يجلس في حديقته الصغيرة مع ابنته، التي غادرت المنطقة بدورها.

"نحبّ في هذه الأحياء طابعها الضيعاوي وأدراجها ومرورنا الى جانب بيوتها القديمة والدجاجات التي تعيش خارجها. هناك نوع من الحميمية فيها، هي ما يبحث عنها السوري ولا يجده في أماكن أخرى في بيروت، وهي ليست مدعاة فخر لبعض اللبنانيين"، علّقت شمس.
عدا عن الإيجارات المرتفعة التي يدفعها السوريون في الأشرفية، "ازدهر" أيضاً Business "الكايبلز" و"الموتورات" و"الإنترنت". "مستحيل يقعدوا السوريين بلا إنترنت"، أكملت شمس.

في ساحة ساسين، أصبحت قهوة الـ"Star Bucks" ملتقى للسوريين الساكنين في المنطقة نهاراً. في الليل، يتجوّلون في الجميّزة ومار مخايل ويلتقون في حاناتها. وفي كل مهرجان ثقافي يُنظّم في بيروت، وفي سينمايات الأشرفية، جمعٌ من السوريين الهاربين من أخبار الموت في بلدهم يشاركون فيها.
وهذا كلّه أثّر إيجاباً على تحريك اقتصاد المنطقة.

"بالرغم من تباطؤ النمو الاقتصادي منذ اندلاع الثورة السورية وتراجع أداء القطاعات التي قام الاقتصاد اللبناني تاريخياً عليها (خاصة تلك المتعلقة بالسياحة)، لا بد من لحظ نواحٍ ايجابية أتت بفعل بعض التغيير في نمط الاستهلاك في السوق اللبناني نتيجة نمو القاعدة الاستهلاكية. إذ لا يمكن غض النظر عن الحركة الإقتصادية الجديدة التي ولدت مع نمو الطلب الداخلي على السلع والخدمات بفعل توافد اللاجئيين السوريين إلى لبنان، وإن كان يمكننا التمييز بين فئتين من المستهلكين الجدد: الأكثر يسراً والأقل يسراً، وبالتالي بين نوعين من الطلب الداخلي على السلع والخدمات.

تساهم الفئة الثانية في تحريك الإقتصاد المناطقي بطريقة محدودة نظراً لأن الطلب يقتصر على الضروريات، بينما تُحدث الفئة الأولى حركة لافتة في اقتصاد المنطقة التي تقصدها، حيث أنها تتجه عموماً إلى الإيجار، واللافت على هذا الصعيد هو ارتفاع قيمة الايجارات في مناطق معينة بما لا يتماشى مع تباطؤ حركة بيع العقارات ككل. كما تُنعش هذه الفئة خدمات أخرى مرتبطة بالإيجار كإشتراك مولد الكهرباء والكايبل، كما تؤثر أيجاباً على حركة التجارة المحلية كالمنتجات الغذائية والمشروبات والملابس ومحال الحلاقة وقطاع المطاعم (خاصة المجاورة) والمواصلات والاتصالات. ما خسره اقتصاد لبنان من جراء انحسار الحركة السياحية، تم التعويض عنه جزئياً من خلال حركة اللجوء التي انعشت بعض القطاعات البديلة"، بحسب لارا بتلوني، الخبيرة الاقتصادية.

إلّا أن العديد من سكان المنطقة وبعض سياسييها لا يرون هذه الإيجابيات الاقتصادية من الوجود السوري، والحيوية والتنوّع اللذين أدخلاه عليها. "كل يوم منسمع 100 تلطيشة بمشوارنا اليومي بالسرفيسات في الأشرفية، ومسبّات على السوري "إبن الكلب". عطيتو للشوفير 2000 ليرة، وقلتللو تفضلّ هول المصاري من السوري إبن الكلب يللي طالع نازل معك وعم بخلّيك تشتغل. ما عاد عرف شو يقول، عم يطّلع فيني مصدوم أنو شكلي مو سورية نسبة للصورة النمطية يللي عنده ياها عن السوريين، كنت لابسة بروتيل"، أخبرت شمس.

العمّال

تعود شمس بعد انتهاء سهرتها من مار مخايل الى بيتها في الاشرفية مشياً. لم تصادف يوماً، لا هي ولا أصدقاؤها، عمّالاً يعتدون على أحد كما يُروّج له، بل أشخاصاً "بؤساء"، يمشون "رأسهم في الأرض"، تجنبّاً للمشاكل، كما تقول.

تعلو الأشرفية، كما أغلب المناطق في بيروت، رافعات العمار. هناك على الأقلّ أربعون ورشة عمار في المنطقة، حسب متعهّد باطون التقيناه في إحدى أكبر الورش في الأشرفية. "كل هذه المشاريع هي قديمة ولا تزال مستمرّة منذ سنتين تقريباً. ليس هناك مشاريع جديدة". 
تتراوح نسبة العمال السوريين الذين يعملون في البناء من الساعة السابعة صباحاً حتى الرابعة أو الخامسة من بعد الظهر وفي ظروف صعبة جداً، بين الأربعين الى المئة والعشرين عاملاً في كل ورشة، حسب حجم المشروع. يومياتهم في حدود الخمسة عشر الى العشرين دولاراً. منهم يأتون في "الفان" صباحاً من صبرا أو طرابلس أو حلبا، ويعودون بعد الانتهاء من عملهم، ومنهم من ينام في مكان عمله، أو يستأجر كل عشرة غرفة قريبة من الورشة في الأشرفية، يتشاركون في دفع إيجارها. بعد اندلاع الثورة في سوريا، اضطر العمال الذين لديهم عائلات في سوريا الى جلبهم الى لبنان. أخبر مسؤول ورشة في كرم الزيتون في الأشرفية أن عائلته قدمت من سوريا منذ أكثر من سنة. استأجر غرفة مع صالون "على السطح" في إحدى مباني حيّ السريان في الأشرفية. يدفع إيجارها 400$. "ارتفعت الأسعار كتير. وعم فتّش على بيت ثاني، صاحب الملك بدّو يطلّعني من هون لأنو بدّو يأجرو بأغلى"، علّق محمد.

"يعترضون على كثرة الأشخاص في كل غرفة. ماذا يفعلون، أين ينامون؟ أو يريدونهم أن يناموا تحت التراب ليلاً، لينفضوا عن نفسهم الغبار صباحاً، يعملون، ومن ثم ينزلون مجدداً تحت الأرض عندما يأتي المساء؟"، قال خالد.

"لماذا لا ينظرون الى هذا العامل على أنه باني بيوتهم ويرون في وجود السوريين في المنطقة مصدراً للتنوّع والحيوية وفرصة لبناء علاقة جديدة لبنانية سورية على أسس مختلفة عن تاريخها السابق ولكسر الصورة النمطية التي يشكّلها كلا الطرفين عن بعضهما البعض؟"، تساءلت ريما، الشابة اللبنانية التي تعرّفت على أحياء في الأشرفية كانت تجهلها سابقاً، بفضل أصدقائها السوريين الكثر الذين سكنوا فيها. "النتائج ستكون أفضل بكثير بدل نشر الكره والتهويل والترهيب منهم ومن تواجدهم. أدخلوا حميمية وألفة الى هذه الحارات، ولم يحوّلوها الى "ثكنات" كما يروّج له البعض. وأكثر ما أحبّه فيها هي رائحة المشاوي التي تعبق بها بيوت السوريين، والتي يبدو أنها تثير حفيظة بعض سكان المنطقة من اللبنانيين"، ختمت ريما تعليقها.

تحقيق نُشر في "ملحق مشروع بناء السلام في لبنان" الذي تناول الآثار الإيجابية
للجوء السوري الى لبنان والذي وزّعته اليوم جريدتا السفير والنهار.