“بكرا يا ابني، معركتنا رح تكون مع هيدي العقليّات”. هذه العبارة قالها لي والدي أثناء مشاهدتنا على التلفاز لخروج آخر جندي اسرائيلي من لبنان. وبقي يُردد هذه المقولة (ومقولات مشابهة) كلّما تحدثنا عن المستقبل الذي ينتظر بلادنا. “بكرا” كان يقصد بها ما بعد تحرير الأرض من الإحتلال، أما “هيدي العقليّات” فهي الذهنيّة الدينيّة الظلاميّة التي احتلت المشهد العام لحياتنا في مرحلة ما بعد خروج المحتل من الأرض.

بعد 13 سنة على تحرير جنوب لبنان، يُرابض مقاتلو حزب الله على محاور القصير وريف حمص دعماً لنظام البعث. البعض استغرب واستنكر دخول حزب الله المعارك السوريّة وإرساله الآلاف من عناصره ونخبه العسكريّة للقتال ضد شعب منتفض على نظام استبدادي. ولكن في الواقع ما يقوم به حزب الله ينبع من جوهر وجوده، ويجب أن لا يفاجئنا دفاعه عن الظلم إن كان في إيران، سوريا او لبنان، وهذه بعض تلك الأسباب:

أولاً: المعادلة الاقليميّة

في 1982، انشأت الجمهورية الإسلاميّة حزب الله من ضمن سياسة “تصدير الثورة”، وما عزز من موقع حزب الله ودوره في لبنان التحالف الإيراني- السوري الذي قام على تصفية جبهة المقاومة الوطنيّة التي كانت تعمل خارج اجندة ذلك المحور، وبالتالي تهيئة الأرضيّة المناسبة لحزب الله ليكون الوكيل الحصري للعمل المقاوم المسلح في جنوب لبنان.

ارتبط وجود حزب الله بالمعادلة الإقليميّة، فهو جزء لا يتجزأ من منظومة محور ما يُسمى الممانعة، ويعمل ضمن إطار اجندته الاقليميّة. وهو كحزب أمني وعسكري كان وسيكون له دور في استمراريّة هذه المنظومة.

في مناسبات عدة، أعلن زعيم حزب الله حسن نصر الله “شرف لي أن أكون جندياً في جيش ولي الفقيه”. هذا التصريح برمزيّته يُعبّر عن موقع حزب الله من المعادلة الاقليمية.

لم يُصدّق الكثيرين بأنّ عناصر من حزب الله تُشارك في قمع الاحتجاجات الشعبيّة (الثورة الخضراء) التي اندلعت عام 2009، ضد النظام الإيراني.  وقد اعتبر ذلك من ضمن حملة التحريض على حزب الله، “فأخلاق الحزب لا تسمح له بأن يقوم بمثل تلك الأعمال، كما أنّه لن يُرسل مقاتليه إلى بلاد اخرى ليُدافع عن نظام آخر”، على حد تعبير المدافعين عنه. وقد اثبتت العديد من الشهادات من الناشطين الميدانيين في تلك الاحتجاجات أنّ الكثير من العناصر التي كانت تقوم بإطلاق النار عليهم لا تتكلم الفارسيّة، ولهجتها قريبة للبنانية. وبغض النظر عن انّه لا اثباتات قاطعة على مشاركة حزب الله في قمع الاحتجاجات، فإنّ تلك المشاركة يمكن اعتبارها هامشيّة إذا ما قمنا بالمقارنة مع مشاركته في الاقتتال السوري.

يعتبر دفاع حزب الله عن نظام خميني جزء لا يتجزأ من وجوده، كون سقوط هذا النظام يعني تغيير في المعادلة الاقليميّة التي جاءت به إلى الوجود، وبالتالي تأثره العضوي بأي تغيير جذري يلحق بالنظام الايراني، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام البعثي إذ يُعتبر أي تغيير جذري في النظام (أو إسقاطه) يعني التأثير المباشر على وجود حزب الله واستمراره.

ثانياً: وهم الحدود

ينتظر الكثيرون (ومنهم يساريّون وعلمانيّون) من حزب الله أن يحترم الحدود، وأن لا يُمارس أي أعمال عسكريّة خارج حدود “البلاد”، وهذا أمر مستغرب، خصوصاً وأنّ المنظمات الدينيّة تعمل ضمن إطارها الديني الذي لا ينحصر بقوميّة أو إثنيّة معيّنة، وهي تعتبر كل من ينتمي إلى دينها هو جزء من “امتها”.

على هذا الأساس يعمل حزب الله. بالنسبة له هذه الحدود غير موجودة، وهو جزء لا يتجزأ من نهج وفكر لا يحدّهما حدود دوليّة، فهو يؤمن بنظام ولاية الفقيه الإسلامي الذي يشبه في منطقه نظام الخلافة الإسلامية الذي تدعو إليه القاعدة. ومثلما تقوم القاعدة بإرسال مقاتليها للجهاد في سوريا دفاعاً عن أهل السنّة، بغض النظر عن الحدود، يقوم حزب الله بإرسال مقاتليه للجهاد في سوريا دفاعاً عن أهل البيت والنظام، وبذات المنطق أرسل حزب الله مقاتليه للدفاع عن المسلمين في صربيا، حسب تصريح نصر الله في خطابه 25 ايار 2013. ولكن حزب الله يعمل بطريقة أذكى من الحركات الإسلاميّة الاخرى، إذ لديه القدرة على إضافة البُعُد الوطني على حججه، هكذا يُصبح حزب الله يقوم بحماية “اللبنانيين في سوريا، والدفاع عن المقامات المقدّسة”.

كما أنّه بعد خروج الاحتلال من جنوب لبنان، ربط حزب الله سلاحه بتحرير ما تبقى من الأراضي اللبنانيّة، وهذا ما ادى لبروز مسألة “مزارع شبعا”، والجدل البيزنطي حول لبنانيتها أو سوريّتها. ولكن حينها حسم أمين عام حزب الله الجدل معتبراً بأنّ ذلك لا يؤثّر على سلاح الحزب إذ أنّ هذا السلاح هو لتحرير فلسطين.

طبعاً، بعد حرب تموز 2006، أخرج حزب الله سلاحه من السجال اللبناني الداخلي، ومن ارتباطه بالحدود اللبنانيّة، ليربطه بوجود البلاد والدفاع عنه في وجه المطامع الإسرائيليّة، وهكذا ضمن بأنّ هذا السلاح سيبقى معه حتى عودة المهدي المنتظر.

ثالثاً: الاقتتال الطائفي

ما يحدث اليوم، يُذكّرني بالأحاديث التي كنّا نخوضها مع طلاب حزب الله في الجامعة حول عقيدة الحزب ومستقبله كحزب أصولي في المنطقة، وأذكر جيّداً بأنّه في إحدى النقاشات التي أحرج فيها مسؤول التعبئة في حزب الله بأنّه لخّص وجود حزب الله والحرب الطائفيّة في المنطقة بما يلي: “نحن نريد الثأر للحسين، والحرب الضروس مع السنّة ستستمر حتى يوم القيامة، لأنّ السنّة والشيعة هما مثل قطاران يمشيان بعكس بعضهما على سكّة حديد واحدة”.

طبعاً لن يخرج مسؤول من حزب الله ليُدلي بهكذا تصريح على الإعلام، فهو أذكى من أن يقع علناً في فخ الطائفيّة، ولكن المنتديات والصفحات التابعة لحزب الله على الانترنت تشبه لحد بعيد صفحات جبهة النصرة والمنظمات السلفيّة في لبنان وسوريا من حيث النبرة الطائفيّة، وحضور النفس الديني الأصولي فيها.

البُعُد الديني والطائفي لحزب الله حاضر منذ اليوم الاوّل لخروجه إلى الضوء، بدءاً من تصفيته لكوارد جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، والمجازر التي أقامها بحق العلمانيين واليساريين (تقطيع أيدي وتمثيل بالجثث) في بلدات وقرى البقاع الغربي والجنوب، مروراً بخطابات نصر الله في الثمانينات التي اعتبر فيها بأنّ الوجود المسيحي في لبنان والشرق مجرّد احتلال يجب اقتلاعه، وصولاً إلى عمله على اسلمة المناطق الخاضعة له، من فرض للحجاب والتشادور ترهيباً وترغيباً، لتفجير محلات الكحول، لتهديد أي معارض له بتلفيق ملف عمالة له، إضافة إلى منع الدبكة في الجامعة اللبنانيّة (خصوصاً الدبكة المختلطة بين الشباب والصبايا).

أتذكّر بأنّه أثناء عملي كمتطوع في الأغاثة المدنيّة في إحدى القرى الجنوبيّة بعد حرب تموز 2006، بأنّ الشبان هناك أخبرونا عن ممارسات حزب الله تجاه كل شاب يقوم بالذهاب إلى إحدى السهرات التي تحييها البلديّات في القرى المسيحيّة، بأنّهم يعلّقون في اليوم التالي للسهرة لائحة بأسماء “الفاسقون في الضيعة” على باب الحسينيّة، وذلك للتضييق عليهم اجتماعيّاً.

ومن أبرز النشاطات التي قام بها حزب الله والتي عبّرت تمام التعبير عن بعده الطائفي، نزول مليون مناصر للحزب مرتدين الأكفان احتجاجاً على الاعتداء الاميركي على المقامات الدينيّة الشيعيّة في العراق في عام 2004، علماً أنّ هذا التحرّك هو التحرّك الميداني الأقوى  لحزب الله تجاه الحرب على العراق، خصوصاً وأنّ موقفه تماهى مع مواقف القوى الشيعيّة المتحالفة مع الاحتلال الأميركي.

رابعاً: التكفير

“لو نفذ مسلم الفتوى الصادرة باهدار دم الكاتب البريطاني الهندي الاصل سلمان رشدي منذ 17 عاما لما تجرأ أحد اليوم على النيل من النبي محمد.”

هذا القول لا يعود إلى زعيم القاعدة اسامة بن لادن، بل يعود إلى زعيم حزب الله حسن نصر الله إذ قالها أمام المئات الالاف من مناصريه في ضاحية بيروت الجنوبيّة في شباط 2006. والفتوى تعود إلى شباط 1989، إذ اطلقها الخميني بعد إصدار رشدي لكتابه “آيات شيطانيّة”.

هذه الفتوى تدل بشكل كبير على الذهنيّة التي ينطلق منها حزب الله للتعامل مع المختلفين عنه فكريّاً ودينيّاً، وعلى البُعُد التكفيري في ايديولوجيّته الدينيّة، وهي تتماثل مع فكر السلفيّة الجهاديّة، ولكنّ مظهرها الخارجي أكثر بريقاً وجاذبيّة من الثانية العارية من الأقنعة.

يعتبر حزب الله أنّه يخوض معركة ضد التيارات التكفيريّة، مع العلم أنّه يقف على الطرف الآخر من الأصوليّة الدينيّة، فمن جهة يعتبر بأنّ هذه المواجهة استمرار للمعركة التي حدثت منذ 1400 عام، ومن ناحية اخرى هي قتال ضد الذين كفروا بدين الرسول وشوّهوه. وكلّما مرّ حزب الله بحرب إن كانت مع العدو الخارجي أو مع المدنيين في لبنان تتجيّش قاعدته الشعبيّة دينيّاً، فمن ناحية تقوم  قيادة حزب الله وإعلامه بوضع الأحداث في سياقها الديني، وهنا نستعيد أول خطاب نصر الله أثناء عدوان تموز إذ صرّح بأنّ الجيش الإسرائيلي يقاتل “ابناء محمداً وعلي والحسن والحسين واهل بيت رسول الله. انتم تقاتلون قوما يملكون ايمانا لا يملكه احدا على وجه الكرة الارضيّة”. هذا على الصعيد الرسمي، بينما في الأوساط الشعبيّة انتشر شعور ديني عميق بأنّ نصر الله هو المهدي المنتظر وحزب الله هو جيشه. واليوم يتكرر السيناريو ذاته ولكن على صعيد أوسع إذ تنتشر بين مناصريه فكرة أن حزب الله يُقاتل جيش السفياني، الذي تقول الرواية الدينيّة بانّه سيخرج قبل ظهور المهدي ويُحاول قتله. أما باقي التفاصيل فيُمكن استنتاجها.

هي معركة تشبه لحد بعيد معارك داحس والغبراء، مع فارق بسيط وهو  أنّ السلاح المستخدم في هذه الحرب أكثر تطوراً من تلك.

خامساً: العنف كمصدر حياة

يعيش حزب الله كأي منظّمة عسكريّة على العنف الدائم، فالجسم العسكري إذا ما توقف عن نشاطه لفترة من الوقت يدخل في خمول عميق، يؤدّي إلى انحدار ادائه في المعارك، وإذا ما توقف لفترة أطول قد يؤدي ذلك إلى تفككه.

هكذا، بعد حرب تموز 2006، التي كانت خاتمة الحروب ما بين اسرائيل وحزب الله، دخل الحزب بجهازه العسكري إلى بيروت عام 2008، ويدخل اليوم إلى القصير.

هذه الحروب تشكّل وقود استمراريّته، فهي من ناحية تُعيد الحماس إلى قواعده الشعبيّة التي من الواضح أنّها منخرطة نفسيّاً ومعنويّاً في المعارك، ومن ناحية اخرى تُعيد النشاط إلى أجهزته العسكريّة والأمنيّة كافة بما يُساعدها على استرجاع حيويّتها بعد سنوات من الترهّل، خصوصاً وأنّ كل العناصر التي تدعو إلى دخول الحزب في هذه الحرب متوافرة.

سادساً: صورة حزب الله

هل يأبه حزب الله فعلاً لصورته في نظر الآخرين؟

يوم خروج آخر جندي اسرائيلي من لبنان كان حزب الله مازال وطنيّاً، وله دعم شعبي واسع، وعابر للطوائف، خصوصاً وأنّ صورة “المستضعف” التصقت به، فهو الحزب الغير منخرط في دهاليز السياسة اللبنانيّة، والغير طامع بمناصب حكوميّة، إضافة إلى صورته كـ”مستهدف” من قبل الدولة اللبنانيّة، بعد أحداث طريق المطار (أيلول 1993) إذ قام الجيش اللبناني بإطلاق النار مباشرة على رأس وصدور المتظاهرين والمتظاهرات من عناصر حزب الله الذين خرجوا للشوارع رفضاً لاتفاقية اوسلو، وما زاد من صدقيّة حزب الله أمام الرأي العام اللبناني مقتل نجل أمين عام حزب الله هادي نصرالله في إحدى المعارك ضد الاحتلال في عام 1997.

حتى  25 أيار من عام 2000، ارتبط حزب الله بالمقاومة المسلّحة والتحرير أكثر مما ارتبط بأي شيء آخر، علماً انّه أثناء ذلك كان حزب الله يعمل بدقّة على نشر/ فرض أجندته الإسلاميّة على المناطق التي يُسيطر عليها، خصوصاً في القرى الجنوبيّة المتاخمة للشريط الحدودي (الشريط الذي يفصل بين المحتلة والغير خاضعة للإحتلال) وفي الضاحية الجنوبيّة التي شكّلت الخزان الشعبي للحزب.

بعد عام 2000، بدأ الحزب بالبحث عن كل الحجج التي تدعم شرعيّة سلاحه، علماً أنّه لا ينتظر هذه الشرعيّة من أحد، وكانت أبرز تلك الحجج “مزارع شبعا” التي يعتبرها لبنانيّة ويُريد تحرريها، وبالتالي لديه الحق بالاحتفاظ بسلاحه، وبعد حرب تموز 2006، أخرج مسألة “التحرير” من معادلة السلاح، وربطه بوجود الوطن وحمايته، وهذا ما أطلق عليه “الاستراتيجيّة الدفاعيّة”. وفي عام 2008، استخدم السلاح ضد اللبنانيين دفاعاً عن السلاح، مسقطاً كل ما بناه على مدى سنوات بانّ “هذا السلاح لن يستخدم في الداخل اللبناني، وفي اللحظة التي نستخدمه يكون قد سقط”، على حد تعبير قيادات حزب الله. ولكنّه لم يسقط

عناصر لجبهة النصرة في سوريا

تغيّرت صورة حزب الله، من حزب مقاوم إلى ميليشيا تمارس القتل من أجل الدفاع عن نظام البعث، وبعد أن حاز على شعبيّة واسعة ليس في الشارع اللبناني والسوري فحسب، بل في العالم العربي أجمع، اليوم تتدهور شعبيّته وينحسر تأييده ضمن أبناء طائفته وبعض اليساريين والعلمانيين الذين يرون فيه حليفاً ضدّ الأصوليّة السنيّة، كون حزب الله يقود مسيرة التنوير العلماني في المنطقة.

هذا كلّه لا يعني لحزب الله شيئاً، ففي الواقع، هو لديه اجندته التي يعمل عليها، ويطبّقها بعيداً عن ما يُقال عنه، أو حجم التأييد الذي يحصل عليه من الآخرين. إنّ خطابات نصر الله تحمل هذه الدلالات، كما أنّ منطق مناصريه في تعاطيهم مع النقد الذي يوجّه للحزب يحمل الدلالات عينها.

في هذه الأثناء، وعلى مدى عقدين، كان اليساريون والعلمانيون يقفون على جانب الطريق، متقاعدون عن القيام بأي عمل جدّي وحقيقي يرسم مساراً آخراً إن كان لمعركة تحرّر الإنسان وتحرير الأرض. سكتوا عن ممارسات حزب الله وغيره من الحركات الدينيّة، واكتفوا بالتصفيق لهُم على اعتبار أن تحرير الأرض هو كل شيء.

أغلب التيارات اليساريّة والعلمانيّة ترى في حزب الله قائداً لمسيرة التحرير، واليوم يؤيدونهم في المواجهة مع التيارات السلفيّة وكأنّ حزب الله هو حزب تنويري مدني، وقائده أحد عتاة العلمانيّة والحريّات.

 أما في الواقع، فنحن أمام حرب دينيّة طاحنة بين الظلاميين، نستطيع أن نرى كيف ستبدأ، وهي قد بدأت للتوّ، ولكن لا نعرف كيف ستكون نهائتها.

 

الكاتب: هاني نعيم

المصدر: مدونة الكاتب الخاصة (مدونة هنيبعل) : https://hanibaael.wordpress.com/