يصعد الخطاب "الممانع" في لبنان برافعة من ذراعين: حزب الله من جهة، ومن جهة ثانية الأحزاب والتيارات العلمانية الدائرة في فلكه، ومعها أفراد يعلّقون شارة اليسار بفروعه، أو القومية بتنويعاتها.

الرافعة الأولى واضحة بهويتها الطائفية، وجدول أعمالها ما فوق الوطني. الأرجح أنه، وبعد طول عِشرة، لا إثارة ولا "متعة" في الفكفكة ههنا، رغم ما يشكله فائض قوتها من استفزاز وتعطيل وهيمنة، بأثر من سلاحها وتنظيمها الأمني واقتصادها الموازي. 

أما الرافعة الثانية، فحالة مركّبة. تشبه أطعمة "المطابخ الهجينة" الدارجة الآن في مطاعم بيروت، حيث يُعاد اختراع المازة اللبنانية، مثلاً، بذائقة مكسيكية أو آسيوية. المتعة قطعاً ليست في النكهة المفرغة إلا من نِيّة التمايز. بل في اكتشاف المكونات، المتنافرة إلى درجة العبث، في طبق عجائبي واحد.   

ليست العلمانية قيمة في ذاتها بمعزل عن الأخلاق والممارسة السياسية. كانت صنو الفاشية، وكذلك النازية.. وإن ظلّت العلمانية جزئية أساسية في أي رؤية إصلاحية لبنانية محترمة. إلا أنها، في ديناميتها حين تكون رافعة ثانية لأدبيات الممانعة، تؤدي وظيفة أخرى. تسبغ لمعة مستحبة على منطق "المقاومة". تنقذه من حفرة المذهبية والشعار الذي (ما عاد) يخفي وراءه رغبة أصيلة في مكاسب، بعقلية أقلوية. مكاسب محلية وإقليمية شتى، لا علاقة لها بالتصدي لإسرائيل، ولا بنصرة شعب فلسطيني ينوء تحت طغمة الاحتلال، ولا حتى بلبنان كوطن ومؤسسات.. ناهيك عن حماية الأرض اللبنانية وسمائها. 
 

أنظر حولك، تراهم. وإن لم ترهم، فمؤكد ستسمع أصواتهم، العالية دوماً، لثقتهم بأنهم جامعو أطراف المجد/الحق/الفضيلة. يحبون السهر والرقص وكأس النبيذ. متحررون، تقدميون، يدافعون عن الحرية الفردية في الجنس والمأكل والملبس والزواج والمعتقد والرأي، عن العدالة الاجتماعية والمساواة الجندرية. يقرأون الأدب العالمي ويستمعون إلى موسيقى بديلة. الحوار والنقاش على رأس مفرداتهم، كما المواطنة ومحاربة الفساد والحق في الاختلاف. الشعوب المسحوقة حبيبتهم. يشككون في المسلّمات، في التقاليد الرجعية، وفي حصانات بالية لرجال دين وزعماء بالوراثة...

نحن مثلك، يقولون، نريد دولة مدنية وحياة سياسية ديموقراطية وسيادة للقانون وتعليماً وطبابة وضمان شيخوخة... نحن مثلك، يقولون. لكن، انتبه! هم أيضاً "ضميرك" الذي قد يغفو (يا عميل، أو يا ليبرالي عربي جديد...). هم المنبّه الزاعق، رغماً عنك، وعن عقلك ووعيك ورأيك. هم "أناك العليا". الوصاية الجديدة. توبّخك، وتعيدك إلى رشدك: بالتخوين، بالاتهامات، بالشتائم، بالتهديد، بهدر الدم، ببيان عائلي يتبرأ منك (أين أصبح الفرد المتمرد على العشيرة؟)، بحملات إعلامية وإلكترونية لا يهمّ إن كانت خطراً على حياتك، كما لا يهم الخطر على حيوات شهود المحكمة الدولية فداءً لـ"الحقيقة". فما تقوله، يمكن دوماً ردّه إلى المساس "بالقضية"، هل تعي خطورة ما تقول يا مضلَّل؟ 

عند نقطة اختلافك معهم، في أي من شعارات حزب الله التي يعيدون إنتاجها "علمانية" لتؤاتي "صورتهم": يذهب الفرد إلى الجحيم، والتعدُّد معه، إن أنت لامستَ "المحرّمات"، ولو بالهواء الذي تزفره مع كلماتك. تذكَّر: إنهم العلمانيون، الثوريون. لا مقامات دينية هنا، ولا بخور، ولا قباب. "المقدّس" قضية. فلسطين، فلسطين، فلسطين... أرض هلامية وناس في قوالب رمزية، آلهة جامدة يطوبونها على هواهم بلا حتى الوقوف عند رأيها. أي رأي هذا؟ فلسطين "لنا"! 

جادِل في ذلك، إن كنت تستطيع، من دون أن تنزلق إلى الخيانة. كل مقدّس لا يُجادل. لحزب الله (والمرجعيات الطائفية والسياسية اللبنانية كافة) حظرُ الرب والدين والأنبياء، مع "سيد" و"بطريرك" و"شيخ".. وللعلمانيين الممانعين: فلسطين. 

حمولتهم العصرية، الحقوقية "الجميلة"، ذخيرة تدعم ذخيرة مناقضة. نحن مثلك، يقولون، لكن: الطيران السوري لا ينتهك الأجواء اللبنانية. بشار الأسد وحسن نصر الله يحاربان تكفيريين في سوريا، يحررونها، وهما درع لبنان وفلسطين. المسيحيون انعزاليون، إلا حين "يتفاهمون" مع حزب الله، يغطون حروبه، في لبنان وخارجه. وكذلك معظم الدروز. الغالبية المذهبية عدوة "المقاومة"؟ فلنجد لها تصريفة ماركسية. 


العمالة أقل وصف لسلطة يأتي بها الأميركيون، إلا إن أُعطيت في العراق لحلفاء إيران. 
لا يهم تاريخك كمناضل(ة) في السياسة والثقافة، إن أنت لويت أطراف الخشب برأي من خارج العلبة، أو بخطوة تتجاوز الدوغما. 

فلسطين هي القضية، إلا حين تتجاوز الشعار والأرض، فيخالطها ناسها (ونخالطهم أو نحبّ..)، ناسها الباقون في أرضهم أو اللاجئون خارجها. لعلمانيي الممانعة وحدهم تنكشف رؤيا التطبيع، كما الجان. سمير جعجع أمير الحرب الأهلية الوحيد. الفساد فقط في صفوف "تيار المستقبل"، إلا حين يفاوض على النفط قبل رئيس الجمهورية "التوافقي" العتيد. تنظيم "القاعدة" إرهابي. هذا صحيح طبعاً. لكن: مرحى لحزب الله مُدافعاً في سوريا عن المقدسات. تصبح المقدسات رموزاً أنتروبولوجية. الغرب متآمر بالتعريف، إلا إن فاوض النظام الإيراني أو كسر عزلة النظام السوري. السعودية بترودولار متخلّف، إلا أن هاودت في معركة الرئيس. إيران مشهود لها بثوابتها "المقاوِمة"، ثم أنظروا: عندهم سينما جميلة! القانون الدولي دعامة تحرير فلسطين وجنوب لبنان، لكنه محكمة فتنة لا نسلّمها "مقاومين" متهمين باغتيالات، ولا يَمثل أمامها حماة "حرياتنا". ثم، مفاجأة السهرة برعاية علمانيي الممانعة: مؤسساتنا القضائية اللبنانية محلّ ثقتنا وأولى بالنظر.. إلا إن استدعت آل عيد من محمية جبل محسن. أما الجيش، فحبيب قلوبهم، طالما أنه "ينسّق" مع "المقاومة"، في الشمال والجنوب