لا تزال سوريا واقفة بفضل هيكلها العظمي الصلب. ها هي أضحت جافة كجلد طبل. مياهها شربها المتعطشون للدماء، بعدما كانت سهلا وأعشاش نسور ونحلة بيضاء. شعبها مدقع، أريافها منبسطة أقمارا وأعمارا. مدنها طريّة الجرح، محتشدة وصارخة بصوت مبحوح وقد بدّل وجهها إلى الأبد ألف سهم ونذل. من نخر، يدخل أحد عناصر اللجان الشعبية إلى منزل أحد المطلوب تصفيتهم. يدور هذا الحوار بين الضحية والجلاّد قبل تنفيذ القتل:

الضحية: أنت المكلف قتلي؟
الجلاّد: نعم. لقد كلّفوني تصفيتك. هل أنت وحدك؟
الضحية: نعم.
الجلاّد: وزوجتك؟
الضحية: لا تشغل بالك. لا زوجة لي.
الجلاّد: أعندك أولاد؟
الضحية: ما هذا الغباء! قلت لك إني غير متزوّج، فكيف يكون لي أولاد.
الجلاّد: أخوة... أليس لديك أخوة؟
الضحيّة: اثنان.
الجلاّد: وأين هما؟
الضحية: الأصغر لا يزال معتقلا في سجون من أرسلوك لقتلي. الأكبر استشهد في إحدى حروبكم التي انهزمتم فيها.
الجلاّد: أتؤلف كتاباً؟ غرفتك مليئة بالكتب.
الضحية: أنا كاتب.
الجلاّد: أيوجد أناس يقرأون الكتب التي تكتبها؟
الضحية: كتبي تقرأ في الأمكنة التي تكون فيها ممنوعة.
الجلاّد: وفي المناطق التي تكون فيها غير ممنوعة؟
الضحية: يمقتها الناس ويكرهونها.
الجلاّد : هل عندك سكرتيرة؟
الضحية: لا شك في أن هناك شائعات قوية تنشر في محيطكم حول إيرادات المؤلفين.
الجلاّد: عظيم. أنك وحدك. أنا أحتاج في عملي إلى الهدوء والسريّة.
الضحية: يبدو أنك قاتل رومنطيقي.
الجلاّد: هكذا هي التوصيات. ثم إني مشغول جدا في هذه الأيام. لذلك أرجوك. دعنا ننه المهمة السريّة بسرعة.
الضحية: ألا تريد أن تجلس؟
الجلاّد: سأجلس قليلا على حافة هذه الطاولة.
الضحية: تصّرف كما لو كنت في بيتك. هل تسمح لي بأن أقدم لك كأـسا من النبيذ؟
الجلاّد: شكراً. أنا لا أشرب قبل إنهاء مهمتي. لكي تبقى اليد ثابتة وقوية.
الضحية: يبدو أن لا فائدة من الحديث معك.
الجلاّد: هل أفهم أنك تحتقرني؟
الضحية: ومن يستطيع أن يحترمك يا أحقر البشر؟
الجلاّد: عفواً... عفواً؟!
الضحية: هل غضبت من كلامي؟
الجلاّد: أنا لا أغضب من كلام كهذا.
الضحية: ظننت أنك غضبت. لكن قل لي: كيف تفكر في تنفيذ الإعدام؟
الجلاّد: من دون ضجة.
الضحية: ماذا تحمل في يدك؟
الجلاّد: ألا تراه؟ إنه سكّين.
الضحية: تريد أن تقتلني بالسكّين؟
الجلاّد: هذا ما أريد.
الضحية: ولماذا لا يكون بالرصاص؟
الجلاّد: الرصاص لا يفشّ غلي.
الضحية: هل الطعن سيكون مؤلما؟
الجلاّد: مؤلم. لكن الأمر سينقضي بسرعة. دقائق وتنتهي.
الضحية: أقتلت كثيرين بهذه الطريقة؟
الجلاّد: أجل.
الضحية: يسعدني أنهم قد أرسلوا شخصا مختصا ولم يرسلوا شخصا مبتدئا. هل عليّ أن أقوم بعمل ما؟
الجلاّد: فك الزر الأخير حول الرقبة.
الضحية: تريد ذبحي إذاً.
الجلاّد: سأقطع العرق بضربة سريعة.
الضحية: أتسمح لي بأن أدخن سيجارة قبل ذلك؟
الجلاّد: طبعاً. هذا أمر بسيط. وقد سمحت بذلك للآخرين مثلك. نحن نعامل المثقفين معاملة خاصة.
الضحية: أتريد سيجارة؟
الجلاّد: لا أدخن حمراء طويلة.
الضحية: تدخن مالبورو.
الجلاّد: وحياتك سرقة.
الضحية: معك نار؟
الجلاّد: طبعاً... أنا أشعلها لك بنفسي. الضحية: هذا كرم منك. ها هي ياقة قميصي مفتوحة. رقبتي الآن عارية أمام نصلك.
الجلاّد: في الحقيقة... إنك تؤلمني.
الضحية: هل تتعاطف معي؟
الجلاّد: نعم. سأعاملك بشكل خاص جداً. الضحية: ألأنني كاتب؟
الجلاّد: ولأمر آخر أيضاً.
الضحية: ما هو؟
الجلاّد: لأنك من دعاة الحريّة.
الضحية: هل لي بأن أسألك سؤالا؟
الجلاّد: تفضل.
الضحية: ماذا تفهم عن الحريّة؟
الجلاّد: لا شيء يا سيدي.
الضحية: هذا ما توقعته.
الجلاّد: لقد أطفأت سيجارتك. أتريد أن تموت الآن؟
الضحية: ممكن دخِّن سيجارة ثانية؟ الجلاّد: بكل ارتياح، فأغلب الذين قتلتهم كانوا يدخنون قبل الموت سيجارة وغالبا سيجارتين.
الضحية: بصراحة... أنا أحببت هذه المحادثة بيني وبينك. ليس من السهل الجلوس دائما مع الحقراء أمثالك.
الجلاّد: إنني أقدم لك النار لتشعل سيجارتك يا سيدي.
الضحية: شكراً.
الجلاّد: ألا تشعر بالخوف؟
الضحية: كل إنسان يشعر بالخوف أمام الموت.
الجلاّد: والإنسان لا يغادر الحياة وهو راض كل الرضا.
الضحية: عندما تكون العدالة مفقودة... يغادر الإنسان بأقل حسرة. لكنك لا تفهم شيئا عن العدالة. أليس كذلك؟
الجلاّد: ابعد عن الشر وغنّيلو. الضحية: أرأيت! أنني لن أتوقع العكس. هل تعتبره تطفلا مني فيما لو سألتك عن حياتك منذ الطفولة؟
الجلاّد: أنا عشت طفولتي بين جدران قاتمة. كانت للعفونة رائحة كرائحة الموت. أمضيت حياتي وأنا أتسكع في الشوارع. كانت الشوارع طويلة ومعتمة. كنت دائما أروح وأجيء من دون هدف. تركت المدرسة من الصف الخامس، إلا أنني كنت أواظب على قراءة "الثورة" و"البعث" بين وقت وآخر. وكنت أستمع إلى الراديو وأشاهد الفضائية السورية. ولأزيد خبرتي في الحياة، تعاطيت المخدرات. كنت أشرب حشيشة الكيف. ثم دخلت السجن بسبب التعاطي. خرجت بعفو رئاسي بعد شهرين من اندلاع الثورة. وها أنت تراني أمامك اليوم.
الضحية: أراك شبّيحاً أصيلاً.
الجلاّد: أليس أفضل من السجن؟
الضحية: وما الشيء المهم لديك الآن. أقصد كشبّيح؟
الجلاّد: الشيء المهم بالنسبة إليَّ يا سيدي هو الطريقة التي يموت بها الآخر على يدي.
الضحية: يبدو أنها كانت هواية لديك واكتشفتها أخيراً.
الجلاّد: بصراحة... أنت حتى الآن لم تسألني سؤالاً مهماً.
الضحية: ماذا تريد أن أسألك؟
الجلاّد: اسألني عن أنواع القتل المفضلة لديّ وعن الفروق بينها.
الضحية: هل هناك فروق؟
الجلاّد: شاسعة.
الضحية: عدِّد لي هذه الفروق.
الجلاّد: فنون القتل يا سيدي هي الفنون الوحيدة التي تعلّمتها في هذه الأيام.
الضحية: أقرضنا ما لديك.
الجلاّد: في الحقيقة لم أكن أكثر من حيوان أجوف وقوة وحشيّة لتنفيذ المهمات القذرة.
الضحية: لماذا قمت بذلك؟
الجلاّد: هذا ثمن خروجي من السجن الذي كنت سأقضي فيه عددا لا بأس فيه من السنين. مقابل أن أستعيد حياتي، طلب منّي أن أكون قاتلا نشيطا. ألم يكن هذا تفكيرا سياسيا سليما منّي؟
الضحية: تستطيع المتابعة.
الجلاّد: مارست الذبح والخنق وتكسير العظام والجلد حتى الموت. مارست الاغتصاب والسرقة. لقد قتلت طفلا في حضن أمه، وبعد ذلك اغتصبت الأم. مرّة رميت أحدهم في المجارير بعد قتله. وحرقت بعضهم. أحدهم رميته بمئة طلقة رصاص. بدأت من إصبع قدمه الصغرى، فخسرت عشر طلقات لقدميه. ثم انتقلت إلى أصابع يديه وخسرت عشر طلقات أيضا. بعد ذلك نزلت إلى الساقين فالركبتين، ثم العضو الذكري الذي أطلقت عليه ثلاث طلقات. آخر طلقة كانت في الجبين. لكن ما كان يحزّ في نفسي ويثير حفيظتي، أن جميع من قتلتهم كانوا يعاملونني باحتقار وازدراء. لقد كانوا يا سيدي يموتون باعتزاز، وكانوا يلقون في وجهي كلمات بذيئة... ويهاجمون الطغاة والمستبدين. أتصدّق؟!
الضحية: أنت تتألم لأنهم ماتوا بشجاعة؟
الجلاّد: نعم.
الضحية: عندما تضع قدمك على رقبة أحدهم لمدة أربعين عاماً، يجب أن تتوقع منه أن يموت على هذه الشاكلة.
الجلاّد: على كلّ حال، لكل إنسان مطلق الحريّة في أن يموت كيفما يريد.
الضحية: ها أنا أمامك... وأريد أن أموت أيضا كبطل.
الجلاّد: لي طلب منك.
الضحية: ما هو؟
الجلاّد: مت شجاعاً... لكن تواضع أمامي. أنت تثيرني بهذا العجرفة.
الضحية: ليس لي أن أفعل غير هذا.
الجلاّد: كالعادة، كلكم تحرمونني من أن أراكم متواضعين أمامي.
الضحية: إنني أسلمك نفسي للقتل. فقم بذلك.
الجلاّد: كالمتواضعين يا سيدي.
الضحية: عندما يقف المرء أمام الجلاّد، لا قيمة للوضع الذي يتخذه.
الجلاّد: هل ترغب يا سيدي أن أصرح لك بمكنونات قلبي بعد أن قتلت ما قتلت من أبرياء؟
الضحية: ولك قلب أيضا؟!
الجلاّد: إنني لا أنسى من قتلتهم.
الضحية: ذاكرتك قوية جدا.
الجلاّد: لا أفكر في غير ذلك... لقد تعبت.
الضحية: ماذا تريد أن تسرّه إليّ من مكنونات قلبك؟
الجلاّد: ما أستطيع التغلب عليه وما لا أستطيع.
رجل.
الجلاّد: إن سلطة القتل التي منحوني إيّاها يا سيدي، والتي مارستها منذ ثلاث سنين ولا أزال أمارسها بيديّ هاتين وبالنصل الحاد الذي تراه بين أصابعي ليست إلا سلطة صغيرة من سلطات أولئك الذين يحتقرون هذا الشعب. أعترف أمامك بأن سلطتي هذه التي فرحت فيها وانتقمت بواسطتها من سنوات عمري التي مرّت وأنا كنت على شعور دائم أنني مجرد صرصور لا قيمة لي. هم يقتلون بواسطتي وبواسطة أمثالي يا سيدي. هم فوق وأنا وأمثالي تحت. لقد استغلوا حاجتنا في أن نكون محترمين ولو بالخوف. لقد ملأوا رؤوسنا بمزاعم مختلفة من أسمى الأفكار عن القومية العربية، عن تحرير القدس وتحرير الجولان. عن الممانعة والمقاومة وصولا إلى أحط درجات الخسة والدناءة. كانوا يقولون لنا يا سيدي إن هذا الشعب مثل ثور يجب دائما أن يربط إلى المحراث وإلا من سيستطيع إيقافه فيما لو أفلت. وقالوا لنا إن هذا الشعب لا يأتي إلا بالحذاء والسوط. وقالوا لنا أشياء تقشعر لها الأبدان، وكلّها يا سيدي أشياء تجعلنا نكره أنفسنا لأننا ننتمي إلى هذا الشعب الوضيع. نحن يا سيدي أناس جهلة لا نرى أبعد من أنوفنا. ما اكتشفته يا سيدي أنهم يحكمون بقوة بطشنا وفوق أراضي رعبهم توضع ملامحي وملامح أمثالي على الشاشات كوحوش بشرية. لقد تعبت يا سيدي من صورتي هذه.
الضحية: يا مسكين.
الجلاّد: أرجوك يا سيدي، دعني أكمل بدون أن تقطع حبل أفكاري. الضحية: تفضل أكمل هذا الحبل النتن.
الجلاّد: المهم يا سيدي، هم بأمثالنا يحافظون على حكمهم، ويتنعمون بالثروات الهائلة وبالمجد. ونحن نبدو كالقيح المتجمّع في دمّل. السلطة تغوي أمثالي من الحثالة يا سيدي.
الضحية: لقد صنعوا منك ومن أمثالك تركيبا مبهما من القوة والرعب، من الشهوة الى القتل والإذلال. لقد صنعوا منكم كائنا جلادا يخافه الناس. إنه الاستبداد.
الجلاّد: أنا أخافهم يا سيدي. وأحقد عليك لأنك لا تخافهم مثلي.
الضحية: هل تعرف أن الاستبداد لا عمل له إلا الإبادة. هل تريد أن أذكر لك ستالين، هتلر، موسوليني، فرانكو، نيرون؟ العنف لا ينتج إلا عنفا. وكل الاستبداد يسبب استبدادا آخر. هكذا ندخل في لولب جهنم الحلزوني. لقد انتهت سيجارتي.
الجلاّد: ألا تريد سيجارة أخرى؟
الضحية: لا... لا أريد.
الجلاّد: كأس خمر؟
الضحية: أيضا لا أريد.
الجلاّد: والآن ماذا نفعل؟
الضحية: أقفل هذه النافذة. فأول حافلة بدأت بالسير خارجا.
الجلاّد: النافذة مغلقة يا سيدي.
الضحية: كان وسيبقى نضالنا ضدكم رائعا.
الجلاّد: لكن قهرنا لكم كان أسود.
الضحية: ليس لديّ ما أقوله بعد ذلك. هل حان الوقت؟
الجلاّد: حان يا سيدي.
الضحية: خذ السكين الآن... كن سريعا.
الجلاّد: رقبتك تحت نصلي يا سيدي... هل أنت مرتاح؟
الضحية: إطعن بنصلك النجس.

أحمد ديبو