بسطت لحافاً صغيراً على الطاولة، حملت طفلها الذي يبلغ عاماً واحداً فقط، وشدت اللحاف باتجاهه وضمتهما إلى صدرها. ناداها زوجها بإلحاح أن تسرع في الخروج من المنزل، فغطت رأسها بشال خفيف، وخرجت. في الطريق أخبرت زوجها أنها تركت نافذة المطبخ مفتوحة، أمسك جدي بيدها وأجابها:" يومين وبنرجع مارح يدخل حدا على البيت".

النكبة – فلسطين

 احتلت إسرائيل المدن الفلسطينية، وقامت بتشريد وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين، كما ارتكبت مجارز عديدة، في محاولة منها للسيطرة على البلد. لجأ الفلسطينيون آنذاك إلى الدول العربية المجاورة، كما لجأ آخرون إلى المدن والقرى والبلدات الآمنة.

خرج جدي من مدينة حيفا برفقة جدتي وابنهما (أي عمي الأكبر)، ومشيا مع القوافل المهاجرة، رجالاً ونساء وكهولاً وأطفالاً. حمل بعضهم ما استطاع قبل أن يُقتل ويُباد. كما خرج آخرون محمّلين بأجسادهم وعائلاتهم فقط، وأملٍ قريبٍ في العودة.

 النكبة – سوريا
اجتاح النظام السوري المدن والقرى السورية، في محاولة منه للقضاء على الثورة والثوار وكل ما يرتبط بهما؛ الأحياء السكنية، البنى التحتية والمدنيين. مع مرور الوقت واستمرار النظام في عملية التدمير الممنهج وملاحقة المواطنين وقتلهم واعتقالهم، هجر الكثيرون إلى الدول العربية المجاورة، كما نزح عدد كبير إلى البلدات والقرى والمدن التي  تعتبر أكثر أماناً إلى حد ما، حاملين معهم القليل من متاعهم. وحمل آخرون أنفسهم فقط مجرّدين إلا من الثياب التي يرتدونها.

 نزح محمد مع زوجته وطفليهما من حرستا بريف دمشق تحت قصف شديد من قبل النظام السوري، إلى إحدى المدارس في منطقة التضامن في العاصمة دمشق، والتي تعرضت لاحقاً لتدمير شبه كامل من قبل الجيش السوري، ما اضطر العائلة للتوجه إلى لبنان. رفض محمد في البداية أن يسجل نفسه كلاجئ، إذ كان على يقين من أنه سيعود قريباً إلى منزله، إلى أن اتصل به أحد الأقرباء وأخبره بأن منزله دمر بالكامل، وكذلك مشغله. فسجل نفسه وعائلته كلاجئين سوريين في لبنان.

 المخيمات

 صادفت ثلاث صور لأحد المخيمات، ثلاثة أطفال متفاوتو العمر، يحضنون بعضهم بعضاً، يحدقون جميعهم في الكاميرا. الطفلة في الوسط تنظر بغضب، بغضب شديد. خلفهم يظهر جزء من الخيمة وطرف برميل. الصورة الثانية لرجل عجوز ينظر إلى العدسة بقسوة وحزن، وكأنه يحكي القصة كلها، وإلى جانبه فتاة صغيرة تسند جسدها عليه وتدير وجهها بعيداً .. بعيداً جداً..

أما الصورة الثالثة، نهر من الخيم المتراصة، تسند أعمدتها بعضها البعض، تربطها جميعاً حبال كثيرة، وثياب تحضن واحدتها الأخرى.

 توقفت للحظة وأنا أقلّب الصور الثلاث. اللون، هو الفارق الوحيد الذي فصل بين الماضي والحاضر، بين مخيمات  1948 ومخيمات اليوم.  ثلاث صور  بالأبيض والأسود، ثلاث صور بالألوان، الأزرق والأبيض والقليل من الأحمر والبني والأخضر. واقعان مستمران، نكبتان مستمرتان، إحداهما بلغت 65 عاماً، والأخرى ثلاثة أعوام.

أخرجت النكبة الفلسطينية أكثر من 800 ألف لاجئ فلسطيني من أرضهم، بحسب تقرير للأونروا في 1948، بعد صدور القرار 194 الخاص بالعودة، ليصبح عددهم اليوم 4 ملايين تقريباً، بينما سجلت الأمم المتحدة 9.3 ملايين لاجئ سوري تقريباً حتى الآن..

2014-1948

 وصل جداي وابنهما إلى جنوب لبنان، واستقروا في منزل عائلة جدتي اللبنانية الأصل، "وقتا إللي بيعرف عالم قعد عندن أو قرايب، والباقي توزع على مخيمات والشوارع، كنا مفكرين انو هي فترة مؤقتة"، أخبرني جدي  ذات يوم.. لم يكن هناك وقت كاف لأعرف جدي أكثر، أو أعرف تفاصيل لجوئه. جدي الذي لم يخلع كوفيته يوماً.

تصاعدت حدة القتال في فلسطين بعد قرار التقسيم، وذلك في بداية 1948م. مع انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان دولة إسرائيل واعتباره ساري المفعول، بدأت المعركة بين الكيان الصهيوني الجديد والدول العربية المجاورة والمجموعات الفلسطينية، والتي انتهت باحتلال إسرائيل 78% من الأراضي الفلسطينية، قامت خلالها بارتكاب مجازر عديدة أشهرها مجزرة دير ياسين غرب القدس، التي قتلت إسرائيل خلالها أكثر من 360 مدنياً من أطفال ونساء ورجال وعجزة.

لاحقاً، ذهب جدي وجدتي وأولادهما الأربعة إلى إدلب، حيث أخبروا جدي عن فرص عمل في سوريا. سراقب البلدة التي ذهبوا إليها، كان الجامع منزلهم الجديد فيها، ومن ثم انتقلوا إلى بيت من الطين. البرد وقسوة الحياة في ذلك الوقت، أدّيا إلى وفاة طفلين من أشقاء والدي الذي أنجبته جدتي هناك، ومن ثم توجها إلى دمشق وبقيا هناك..

 ارتكب النظام السوري حتى اللحظة مجازر كثيرة بحق المدنيين خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، استخدم فيها كل أنواع الأسلحة، ونفذ مجزرته بكل وحشية. في داريا نفذ مجزرة راح ضحيتها 600 مدني أعدموا ميدانياً. وفي الغوطة 1500 مدني قتلوا بالأسلحة الكيماوية. إلى مجازر كثيرة أخرى.

عن العودة

 كنت قد بلغت 14 من عمري عندما آثار فضولي سبب احتفاظ عائلتي بالمفتاح المعلق في إحدى غرف منزلنا، أمسكت بالمفتاح وتوجهت إلى والدتي، لم أكن أفهم تعلق عائلتي بهذا المفتاح بعد كل هذه السنوات، لأعرف لاحقاً أن كثيراً من الفلسطينيين يحملون مفاتيح منازلهم أو نسخاً عنها من فلسطين. إرث عائلي يتم تناقله منذ ذلك الوقت. "اذا مارجعنا نحن بترجعوا انتو هي بلدكن يا بنتي" آثار هذا الجواب استغرابي، فأكلمت حديثها "بس تكبري بتعرفي شو قصدي".

لم تكن تعلم والدتي آنذاك أنني سأختبر التجربة نفسها في وقت قريب، التمسك بفكرة "حق العودة". كما لم تتوقع أن تكون إلى دمشق، لم يفهم والداي تعلقي الشديد بالعودة إلى سوريا، لكنني اليوم أصبحت أفهم تعلقهما ذاك جيداً..

انتقل أحمد للعيش في لبنان بعد تجربة اعتقال في الأفرع السورية العام الماضي. خرجت عائلة أحمد من الجولان أثناء الاجتياح الإسرائيلي لها. توجهوا إلى الشام واستقروا هناك. ولدوافع العمل، سافر والده إلى بلدان عدة كانت آخرها الكويت. ولد أحمد في دمشق، ليلتحق هو وأسرته بوالده بعد أعوام، ويذهب بعدها إلى الأردن، ومن ثَمّ إلى دمشق. "إسرائيل والنظام السوري بالنسبة الي واحد، سقوط النظام هو بداية لتحرير الجولان".

يكمل أحمد "أنا بدي إرجع على الشام، بعرف أصلي من الجولان بس تعصّبي لدمشق، طفولتي، مراهقتي، دراستي وحياتي فيها، البلد مو رقم خانة ولا هوية بتسجل انتمائي وين، الجولان مابعرفا ولا بحياتي شفتا، بس اذا بقدر ساعد إنو ترجع بساعد، بتعنيلي متل أيا سوري، بس الشام قطعة مني وأكتر من هيك".

رُحّل هاني عباس من مخيم اليرموك العام الماضي إلى سويسرا. لجأ جد هاني من بلدة صفورية في قضاء الناصرة إلى دمشق في النكبة، لينتقل إلى اليرموك بعد تأسيسه، هناك عاش جد هاني حياته وكذلك والده  وأيضاً هاني" برجع على فلسطين، مش على الشام، أنا حدا تغرب وتشرد وعرف شو يعني كلمة إنك ببلدك وإبن بلد وإنك على أرضك، مهما كانت الأمور قاسية بيكفي هالكلمة، أنا حدا تعب من كلمة لاجئ وتوابعها".

حسان حسان، لاجئ فلسطيني سوري، قتل تحت التعذيب في فرع فلسطين في دمشق 2013.

جهاد عبد الرحمن الطويل، فلسطيني من القدس، قتل تحت التعذيب في السجون الإسرائيلية 2014.

فادي مراد، سوري، قتل تحت التعذيب في سجون النظام السوري 2014.

يد نحيلة جافة للغاية، تحمل وتداً، ترفعه ببطء شديد، عروق اليد بارزة وكأنك ترى مجرى الدم فيها، تهوي اليد ويُغرس الوتد في الأرض، يكرر المشهد ذاته، اليد تهوي ويُغرس الوتد مجدداً، ترفع اليد، تهوي اليد، يُغرس الوتد...