باتت رموز في قوى 8 آذار تستشعر أن ضرباً من ضروب "التهويل" مورس عليها خلال الساعات الـ48 الماضية لتحميلها أولاً تبعة الفراغ الرئاسي الذي بات بمثابة الامر الواقع الزاحف ساعة بعد ساعة، ولممارسة نوع من الترهيب عليها ثانياً من خلال اقناعها بأن ثمة إعداداً مدروساً "لتبليعها" ما تمقته وهو ايجاد صيغة دستورية ما تبقي الرئيس ميشال سليمان في القصر الجمهوري فترة أخرى قد تطول أو تقصر تحت عنوان "تصريف الاعمال". هذا المناخ قابلته دوائر القرار في قوى 8 آذار وفي "التيار الوطني الحر" على السواء ببرودة اعصاب وتعاملت معه على اساس ان شيئاً لم يكن انطلاقاً من اعتبارات عدة أبرزها:

- ان لا اسانيد ولا آليات دستورية ولا سوابق صارت بمقام الاعراف تجعل مثل هذا التوجه النظري حقيقة مجسدة، لذا فإن هذا الكلام بقي في نطاق الهرطقة الدستورية و"تسطيح" هذا الاستحقاق والتعامل معه بخفة ولو كان تحت ذريعة تبرئة الذات من تبعة التعطيل ورمي الحجة على الآخرين وبالتالي التحلل من أية مسؤولية، خصوصاً امام المرجعية الروحية الاعلى لدى المسيحيين مع اقتراب الايام العشرة الاخيرة من مهلة الاستحقاق الدستوري.
- أظهرت التطورات والمحاولات السياسية التي تتالى ظهورها منذ نحو اشهر وحتى الامس القريب ان شعار "لبننة" الاستحقاق الرئاسي هو نوع من الشعر السياسي الذي سرعان ما تبدد هباء منثوراً على صفحة الواقع وعلى صحيفة المعادلات الكبرى العابرة للحدود وللحسابات المحلية. ولم يعد خافياً ان ثمة من تعامل مع موضوع "اللبننة" بشكل جدي وسعى اليه من باب تحقيق انجاز تاريخي.
- ان تجارب الاسابيع الماضية اظهرت ايضاً وايضاً تهافت "المناورات السياسية" التي لجأ اليها البعض وخصوصاً في قوى 14 آذار، وبالتحديد لعبة مرشح الامر الواقع وخلفه مرشحون مدرجون على قائمة البدائل المعروضة للأخذ والعطاء. ففي رأي الدوائر عينها ان هذه "اللعبة" خدمت اصحابها في جلسة الانتخاب الاولى المخصصة للاستحقاق ثم صارت نوعاً من المكابرة السياسية، فضلاً عن انها أوجدت نوعاً من التباينات في داخل مكونات الفريق نفسه لا سيما بعدما اعلن ثلاثة من الاركان المسيحيين في هذا الفريق رغبتهم العارمة في الترشح وشرعوا في حراك سياسي واضح المعالم والاهداف، خصوصاً بعدما وجدوا أن الابواب امام مرشح فريقهم المعلن موصدة.
- ان المسألة الجوهرية في مسار التطورات المتصلة بالاستحقاق الرئاسي منذ اشهر عدة، تكاد تكون محصورة بالحوار الذي بدأ بين زعيم "التيار الوطني الحر" العماد ميشال عون وبين زعيم "تيار المستقبل" الرئيس سعد الدين الحريري.
كثر حاولوا التقليل من شأن هذا الحوار، وأدرجوه في خانة ما سموه استعطاء واستجداء من عون لمنصب الرئاسة الاولى، وأسهبوا في الحديث في بعض المراحل عن أن زعيم التيار البرتقالي صار "أسيراً" لكلمة فصل تأتيه من الرئيس الحريري، بل ذهبوا الى حد تقديم الامر كمثال على تهاوي القضايا والشعارات الكبرى امام الرغبات والمصالح الضيقة، خصوصاً في بلد الرمال السياسية المتحركة أي لبنان.
لكن الايام أثبتت حقيقة اساسية أوشكت ان تصير في مصاف المسلمات، وهي ان اليد الممدودة من العماد عون كانت مسألة عرض جدي عنوانه العريض الظاهر بلوغ قصر بعبدا وباطنه الرغبة في وضع أسس لتسوية سياسية شاملة تفتح الابواب الموصدة منذ اعوام بين قوتين اساسيتين في البلاد وتخرج الساحة الداخلية من صفة الهشاشة الملازمة لها والتي تجعلها مشروع احتراب وفوضى وفلتان غب الطلب الداخلي او الاقليمي على غرار ما اظهرته تطورات الاعوام التي تلت عام 2005.
في المطلق اعادت مسألة الحوار المستمر بين عون وتيار المستقبل الاعتبار الى حقيقة اساسية هي ان لا مجال لحصول الاستحقاق الرئاسي خلافاً لارادة عون وحلفه السياسي العريض، فالاستحقاق يصير ناجزاً من طريق عون.
لكن الأمر الذي ما زال يكتنفه الغموض والضبابية لدى الدوائر المتابعة في 8 آذار هو: هل يمكن حصول اختراق ما على صعيد حوار عون – "المستقبل" بمعزل عن شراكة الخارج، ام انه يتعين انتظار اتضاح صورة هذا الخارج؟
وفي كل الاحوال ثمة، وقبيل عشرة ايام من الموعد مع الشغور الرئاسي المحتمل، ثلاث وقائع عنيدة تتصل بالاستحقاق الرئاسي وفق قراءة دوائر القرار في 8 آذار وهي:
1- ان الاستحقاق الرئاسي سيبقى، ما لم تحصل معجزة ما، منتظراً على قارعة تحولات وتطورات اقليمية في سوريا حيث نتائج الانتخابات الرئاسية التي ستعيد ولا شك الرئيس بشار الاسد الى سدة الرئاسة، وفي العراق حيث يتعين انتظار نتائج الانتخابات العامة والدور الايراني – الاميركي المنتظر وهو شرط لا غنى عنه لاقامة حكومة عراقية جديدة.
2 - انتظار انفراجات معينة بين الرياض – طهران من شأنها ان تطلق دينامية تؤسس لانتخاب الرئيس الجديد على غرار الدينامية التي فتحت الابواب امام تأليف الحكومة الجديدة برئاسة تمام سلام.
3 - مسار المفاوضات المحتملة بين ايران ومجموعة "5 + 1" والمتصلة بمستقبل الملف النووي الايراني.
هذه المعطيات الثلاثة لم تعد ضربا من ضروب التكهن، بل ان الطبقة السياسية في لبنان، على اختلافها، تتعامل معها على اساس انها مداميك حقيقية لاستجلاء صورة الرئاسة الاولى.