على رغم الاجواء القاتمة التي لا تزال تحوط ملف انتخاب رئيس جديد للجمهورية في ظل تمسك كل فريق على ضفتي 8 و14 آذار بموقفه، بما يؤشر إلى تعذر نجاح جلسة الانتخاب الرابعة المقررة الخميس المقبل في تأمين النصاب الكفيل بإجراء الانتخاب، برز في الايام القليلة الماضية نقاش سياسي في الوسط المسيحي يهدف إلى فهم الاسباب الحقيقية الكامنة وراء تعذر إجراء الاستحقاق الدستوري الذي يطال المقام المسيحي الاول في البلاد، وسبل معالجتها قبل أن يكرس انقضاء المهلة الباقية أمام إنتهاء الولاية الرئاسية مشهداً جديدا يجعل الشغور في سدة الرئاسة أمرا واقعا ومقبولاً من القوى السياسية، ولا سيما الشركاء في الحكم والسلطة، بحيث تسقط المهل الدستورية الضاغطة في اتجاه إنجاز الاستحقاق ويصبح موقع الرئيس أسير التسويات الخارجية.

وانطلاقاً من هاجس الفراغ الذي بات يتحكّم في عدد من المرجعيات المسيحية، يقود البطريرك الماروني مار بشارة الراعي حركة سياسية تهدف إلى إبعاد شبح الفراغ عن موقع الرئاسة وتأمين وصول رئيس الى قصر بعبدا قبل انقضاء الولاية في 25 أيار الجاري.
لا شيء يؤشر إلى أن هذه الحركة يمكن أن تحقق أهدافها، في ظل إلتزام كل فريق أجندة خاصة به، بدأ العمل عليها قبل فترة طويلة وبلغت خواتيمها، بحيث أصبح الاستحقاق الرئاسي أمرا ثانويا لا يعني الا الوسط المسيحي.
ويبدو ذلك جليا بالنسبة الى أوساط مسيحية بارزة. فالخوف من الفتنة السنية الشيعية التي شكلت هاجسا أساسيا لمرجعيات المذهبين المحمديين ولا سيما على خلفية الحرب الدائرة في سوريا وانخراط "حزب الله" فيها، دفع هذه المرجعيات إلى بذل كل الجهود وتقديم التنازلات المطلوبة من أجل الاسهام في سحب فتيل التفجير.
شُكلت حكومة الرئيس تمام سلام بعد عشرة أشهر من التعطيل وسُلمت الحقائب الامنية البارزة لممثلين لـ"تيار المستقبل" للقيام بالمهمات الامنية التي تتيح إحتواء المشاكل الامنية ولا سيما في طرابلس من دون انفجار. فنجحت الخطة الامنية في المدينة وعادت الحياة الى طبيعتها بعد نحو 20 جولة عنف كادت ان تفجر البلاد. ولم يكن قبول "المستقبل" بمشاركة الحزب في الحكومة ( وإن على حساب بقاء الحليف المسيحي الابرز خارجها)، قبل عودته من سوريا الا في إطار التنازل في سبيل تجنب الفتنة.
سبق تشكيل الحكومة التي عاد فيها "المستقبل" الى السلطة الى جانب الثنائي الشيعي، تمديد ولاية المجلس النيابي بعد تعذر إقرار قانون انتخاب تجرى على اساسه الانتخابات، رغم معارضة "المستقبل" الشديدة للتمديد. وقد أمن التمديد النيابي ضمان موقع رئاسة المجلس.
وأكثر ما يخشاه الوسط المسيحي اليوم أن أي جهود حقيقية لا تبذل من أجل ضمان موقع الرئاسة الاولى على غرار ما حصل بالنسبة إلى موقعي الرئاسة الثانية والثالثة، مما يهدد الميثاقية التي حكمت لبنان وحافظت على تعدديته الطائفية.
وتنبع الخشية المسيحية مما وصفته بالدفع الحاصل نحو "شغور متعمد" للموقع الرئاسي الاول.
فالمادة 74 من الدستور تحدّد الاسباب التي تبرر الشغور في سدة الرئاسة، وهي أساب استثنائية مثل وفاة الرئيس او استقالته. ولم تلحظ سببا آخر مثل عدم تمكن النواب من الاتفاق على مرشح، باعتبار أن مثل هذا السبب يعتبر منافيا للممارسة الديموقراطية السليمة. بل إن تلك المادة إستبعدت هذا النوع من الشغور ووضعت الآليات الضاغطة لتأمين الانتخاب. فنصت على أنه: "إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس او استقالته أو سبب آخر، فلأجل إنتخاب الخلف، يجتمع المجلس فورا بحكم القانون. وإذا اتفق حصول خلاء الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلا تدعى الهيئات الانتخابية دون إبطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الاعمال الانتخابية".
وبدا واضحا من هذه المادة حرص المشرع على عدم حصول شغور في الرئاسة حتى في ظل عدم وجود هيئة ناخبة.
هذا النص الدستوري عزز الدفع في إتجاه منع الشغور. وعليه، جاء تحرك البطريرك الراعي في هذا الاتجاه.
وبحسب المعلومات التي توافرت لـ"النهار" عن حركة الراعي الاخيرة في إتجاه القيادات السياسية المسيحية منها والرسمية، وقد استهلها بزيارة رئيس المجلس نبيه بري، ان سيد بكركي حمل إقتراحا يرمي إلى إيجاد آلية دستورية تحول دون شغور الرئاسة. ومن الاقتراحات التي عكف قانونيون على درسها، طرح حمله الراعي الى بري، ويقضي بأن يصار إلى تعديل دستوري يقضي ببقاء رئيس الجمهورية في موقعه حتى حصول إنتخاب لرئيس جديد وذلك من أجل تلافي حصول الشغور في سدة الرئاسة الاولى. وهذا الاقتراح لا يعني تمديد ولاية الرئيس او تجديدها، ولا يحدد بمهلة زمنية بل يكون محكوما بإنتخاب رئيس جديد، على أن يقترن الامر بإستمرار عقد الجلسات الانتخابية حتى انتخاب رئيس.
وينطلق هذا التعديل الدستوري من ضرورة حماية المؤسسة الدستورية الاولى في البلاد وحماية حق الطائفة المارونية في موقع الرئاسة على غرار حق الطائفة السنية والشيعية في حماية مؤسستي مجلس النواب والحكومة، علما أن مثل هذا التعديل يضع الشركاء في الوطن أمام مسؤولية حماية دستور الطائف والميثاق الوطني، ويحسم الجدل حول المؤتمر التأسيسي الذي دعا اليه "حزب الله" سابقا.
لكن المعلومات تشير إلى ان هذا الاقتراح لم يسلك طريقه بعد في ظل قرار لدى قوى 8 آذار برفض تعديل الدستور، الا إذا كان لمصلحة انتخاب قائد الجيش!