الشمسُ أجملُ في بلادي من سواها، والظلامْ- حتى الظلامُ - هناك أجملُ، فهو يحتضن العراق

لأنّي غريبْ
لأنّ العراقَ الحبيب
بعيد، وأنّي هنا في اشتياقْ
إليه، إليها... أنادي: عراق

 

صوتٌ تفجّر في قرارة نفسيَ الثكلى: عراق،
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي: عراق،
والموجُ يعولُ بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق؛
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون
والبحر دونك يا عراق.

وكلّ عام - حين يعشب الثرى - نجوعْ
ما مرّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ

أين الهوى ممّا ألاقي؟
يا ليتني طفل يجوع، يئنّ في ليل العراق!

مذ كنّا تلاميذ في الصف الخامس الابتدائيّ تعرّفنا في درس الجغرافيا إلى مناخ العراق إذ يصفه الكتاب بأنّه طقسٌ: "حار (نار!) صيفاً، بارد قارص شتاءً"، وإذا ما تدّبرنا مفردتي "نار!" التي هي في الأصل "جاف" وقد حصل الاستبدال على يديّ شخصياً لأنّ مفردة "جاف" لا تعبّر مطلقاً عن حرارة الصيف العراقيّ الجهنميّة وهي تلتهم الأجساد وتعصر المشاعر والأرواح بلا رحمة ولا شفقة، على النحو الذي تكون فيه مفردةُ "جاف" مسكينةً وبسيطةً وعفويةً وأنيقةً ومؤدبةً ولائقةً لا تستجيب مطلقاً لرعب حرارة الشمس العراقية ولهب قسوتها وإجرامها. أمّا الشتاء الـ"قارص" فالوصف يعبّر بقوّة ودقّة عمّا يقاسيه العراقيون من إرهاب البرد وجبروته ودقّه للعظام، لذا لم يكلّفني ذلك استبدالها فهي كفيلة بوضع نقاط القَرْص وشماً على حروف الجسد والروح معاً.
منذ ذلك الوقت شعرنا أنّ عراقنا قاسٍ قسوةً لا مثيل لها ابتداءً من عتبة الطبيعة، مروراً بعتبة السلطة الباغية الطاغية (المنزّلة دائماً من السماء) وهي تضاعف نارَ الصيف وتعمّق قَرْص الشتاء، نتبرّد بمكيّفات الديكتاتورية ونتفيّأ تحت ظلالها الوارفة بلا أجساد ولا مشاعر، ونتدفأ بكهرباء الديموقراطية أربعاً وعشرين ساعة ونحن ننعم بفاكهة الشتاء، حتى صار البحث عن جنسية بديلة غير الجنسية العراقية ضرباً من الكماليات من أجل استكمال برستيج المواطنة الكوزموبوليتية!، وانتهاءً بالخيرات المجنونة وقد حفلت بها أرض العراق وسماؤه وعقله وتاريخه وألوانه، بلد ثريّ بكلّ شيء لكنه فقيرٌ بثرائه، ومعدمٌ بغناه، لا يُحسن سوى التهام أبنائه وتشتيتهم وبعثرة عقولهم وأجسادهم في متاهات الدنيا وجيوبها وظلالها وطبقاتها السفلية. وأصبح العراقيّ بعدما لقّنَ التاريخَ درسَ الحقّ والعدل والجمال والحرية، حائراً منبوذاً أينما ذهب، لا يحصل على تأشيرة دخول إلى أيّ بلد عربيّ (ناهيك طبعاً بالأجنبيّ) إلّا بشقّ الأنفس، وماذا تبقّى من هذه الأنفس يا تُرى؟
من هنا في وسعنا أن نفهم التباس الشاعر القتيل بدر شاكر السيّاب في التعامل مع بلده العراق، عراقه، ومن ثمّ التباس ملايين العراقيين من غير أصحاب السلطة والمال. فعراق السيّاب لا أحلى من شمسه ولا أحلى من ظلامه أيضاً، لكنّه في الوقت نفسه بلد الجوع حين يُعشب ثراه؛ بلدٌ طاردٌ لأبنائه، يضعهم دائماً بين نارين لا ثالث لهما: موتٌ مجّانيٌّ أو هجرةٌ مُذلّة. يهربون من موت مجانيّ نحو هجرة قاهرة لكنّهم لا يلبثون أن يحنّوا إلى عراقهم الحبيب حتى وإنْ كان لا يحمل لهم سوى الموت المخبّأ بين طيّات حروفه بسيميائها الجهنميّ الملغز. ما هذه المحنةُ يا إلهي؟ ألا يمكن إعادة كتابة مصير العراقيين في اللوح المحفوظ؟ إلا يمكن تقليل عدد الشهداء العراقيين في حروبهم الكارثية المستمرّة كي يتبقّى مكانٌ مناسبٌ في الجنّة للصالحين والشهداء والأبرار من جنسيات أخرى؟
حضور العراق في شعر السياب حضور إشكاليّ يوازي تشكيلياً حضور المرأة، والمرأة في شعر السيّاب هي جسدٌ ظامئ، مفتونٌ بظمئه. فم السيّاب "جاف"، مثل طقس بلاده الصيفيّ، مسكونٌ بنار لا ترتوي حتى لو التهمتْ ألوف الأجساد، لأنّ جفافه ضاربٌ في وجدان التاريخ منذ ألوف من السنين. فحسيّة شعر السيّاب بحثاً عن جسد عاشق تتمظهر أحياناً بحنين عشقيّ جارف إلى دفء العراق، جسده الشعريّ المعطّل (على الرغم منه) يدفعه إلى الانتقام من ثورة عواطفه تجاه المرأة وتجاه العراق سواءً بسواء. المرأة التائهةُ الضائعةُ البعيدةُ القريبةُ المتمنّاة الممدوحةُ المهجوّةُ المثالُ المومسُ، تقترن بالعراق الطارد المجوّع القاهر الحاضر الغائب الحلم المُتمنّى الخصب البخيل. لذا لو أخرجنا العراق والمرأة من فضاء شعر السيّاب فإنّ الحطام المتبقّي لا يكفي لصناعة قصيدة ساذجة واحدة.
صورة العراق في شعره صورة مأسوية فريدة تتعدّى فكرة المكان أو الوطن وتنفتح على فضاء شعريّ نوعيّ يصعب فكّ التباسه. إنّها صورةٌ ما بَعديّةٌ، لا تكتفي بالتصوير والتدليل والإحالة، بل تمتدّ وتتّسع وتتمطّى وتنفلت كي تتحوّل إلى كون صوريّ لاذع يحرق حنجرة القارئ ويكوي جوفه بشظايا صوريّة لا تدع له فرصة للتأمل أو الاستقبال القرائيّ المريح، على النحو الذي تتجاوز فيه العلاقة بين نصّ السيّاب وقارئه حدود المتعة الشعرية التقليدية المطلوبة في هذا السياق، لتنفتح على إشكالية قرائية بين المتعة والإشفاق، الانبهار والعطف، الابتسامة والدمعة، الحضور والغياب، ولا يمكن القارىء في نهاية المطاف إلّا أن يرى شخصَ السيّاب شهيداً على مائدة القراءة يتلقّى العزاء كمن يتلقّى الطعنات.

منْ قتلَ السيّاب؟
نعم، قُتلَ السيّاب، قُتلَ عمداً مع سبق الإصرار والترصّد. قُتلَ بثلاثة أسلحة فتّاكة هشّمتْ كبرياءه، وعصفتْ بروحه المتوهجة الملتاعة، وسحقتْ لغتَه الذاتية حين حوّلتها إلى مرآة مهشّمة يستحيل تفادي ما تتركه من وشوم مدمّاة على جبهة أيّ مقاربة قرائية لها مهما كانت بسيطة، وجعلت هيكله الضئيل حطاما تذروه رياح الشعر والحداثة والريادة والحلم والوهم والموت الماثل أبداً في قصيدة وجهه ووجه قصيدته. سلاح الفقر وهو سلاح أكثر فتكاً من أيّ سلاح آخر لشاعر (أيّ شاعر) يتطلّع إلى حياة نوعية فيها من البهجة والرحابة واللذّة ما يكفي، وسلاح الشكل الخارجيّ المتعلّق بالوسامة والأناقة والاستحواذ على قلوب المعجبات على نحو يليق بشاعر رائد له حضور مؤثّر وطاغ في المساحة الشعرية العربية بأكملها، وسلاح المرض وقد أجهز على السيّاب مبكراً ليتركه صريع الألم والمعاناة والتجربة المرّة. وبما أنّ الموهبة الكبيرة تقتل صاحبهَا كما يُقال، فهل ساهمت الموهبة الكبيرة بمعية الأسلحة الأخرى ومساندتها في قتل السيّابَ مثلما قتلتْ من قبلُ جدّه أبا تمّام؟
افتتح بدر شاكر السيّاب الشاعر الرائد (صحبة زملائه الآخرين) فجراً جديداً للقصيدة العربية وخطّ مساراً مغايراً للشعرية العربية، ولم تكن الريادة مقصورةً على الفعل التاريخيّ فحسب، بل استطاع مع زملائه الروّاد صوغ مفهوم جديد للشعر، سرعان ما تطوّر ونضج على أيديهم وأيدي الأجيال اللاحقة من بعدهم، إذ اقترب الشعر العربيّ كثيراً من الشارع والرصيف والخوف والضعف والخيبة والخذلان والبوح والصدق والخجل والوهم والفكر والمعرفة والثقافة، حتى صار السيّاب شاعر الألم والروح والتجربة والهزيمة والموت بلا منازع.
هل الشاعر بحاجة إلى أن ينتمي إلى حزب معيّن، مهما كانت عظمة هذا الحزب؟ لا شكّ في أنّ الشاعر دائماً أكبر من أيّ حزب، فحين ينتمي الشاعر إلى حزب معيّن فيكرّم هذا الحزب ويثريه ويجعل له معنى، وحتى حين يتحوّل عنه بمزاجه يجب أن لا يُلام لأنّ مزاجه الشعريّ أهم خصوصية لديه ويجب أن نقدّسها. وإذا كانت مقولة إنّه يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره محصورة في التصوّر النقديّ التقليديّ بالجوازات اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية، فنحن نعتقد أنها أوسع من ذلك بكثير، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الانتماء إلى حزب أو التخلّي عنه؛ عشق إمرأة أو التخلّي عنها؛ اختيار منفى أو مغادرته. المقصود هنا الشاعر الحقيقيّ القادر على أن يضيف للتاريخ والفكر والحساسية والذوق والرؤية والمخيال والثقافة والإبداع والجمال والفن والحياة عموماً. وما أقلّه. فحين انتمى السيّاب إلى الحزب الشيوعيّ العراقيّ يوم كان اليسارُ حلمَ المثقفين الطائرَ لتغيير العالم وصناعة مجد جديد للإنسان، فقد أضاف للحزب ولم يضف له الحزب. وحين خرج منه فقد خرج لأنه وجد أنّه أكبر من الحزب، مثله مثل أدونيس حين انتمى إلى الحزب القوميّ السوريّ حيث وجد في أفكار أنطون سعادة ما يشفي غليله الفكريّ، غير أنّه بعد أن نضجت أفكاره الشخصية كما يجب وجد أنّه أكبر من الحزب فهجره، ولم ينتم إليه محمد الماغوط سوى لأنّ مقرّه قريب من بيته وفيه "صوبيا" بوسعه أن يتدفأ عليها أيام السهر في الشتاء. فما هو الحزب (أيّ حزب) في إزاء شاعر لا يتكرّر كالسيّاب وأدونيس والماغوط وغيرهم؟
تتميّز قصيدة السيّاب بالزخم الشعريّ الهادر والكثافة الشعرية الهائلة على نحو يقود إلى تفجّر الدوال الشعرية حتى تسيح دلالاتها على الورق، حبراً أو دماً أو ماءً سمويّاً خلّاقاً، وتدقّ طبولها عميقاً وطويلاً في عقل القراءة، وتنتج ذلك الصخب الجميل في بانوراما الصورة الشعرية. قصيدتُهُ طوفانٌ عاطفيّ في وسعها أغراق كلّ شيء أمامها، إذ هي على الدوام مكتظّةٌ بماء شعريّ ساخن يحكي أصالة التجربة وعنفوانها كأـنها قادمةٌ من رحم مسكونة بخصب أبديّ لا ينضب، رحم تموزيّة لا تملّ من البعث والولادة والتناسل والتناسخ، يمكن للقارىء الفَطن أن يتلمّسَ نزفَ دمها في لغته.
في وسعنا إقرار حقيقة قد لا يُختلف عليها كثيراً، وهي أنّ بدر شاكر السيّاب يمثّل ضمير الشعرية العربية الحديثة، ليس على صعيد الحقيقة الإبداعية الشعرية فحسب بل على صعيد الرؤية الثقافية أيضاً. فالثالوث المرّ وقد تمثّل في تجربته بالفقر والقبح والمرض، تعالى الإحساس به في ذات السيّاب الشعرية إلى درجة اليأس، فضلاً عن رحيله المبكّر، ربما يكون ساهم على نحو ما في تعاطف مجتمع القراءة معه، غير أنّ التعاطف بطبيعته الوجدانية والانفعالية لا يستمر طويلاً مهما كان كبيراً وجوهرياً، ويهيمن عليه عادةً نوع من الرثاء النقديّ التعاطفيّ لا يُشبع من جوع ولا يحمي من خوف. ما حصل للسيّاب في المدوّنة النقدية التي قاربت شعره لا يمكن أن يندرج في هذا السياق، إذ هي مدوّنة غزيرة لم تُنجَزْ عن أيّ شاعر عربيّ ربما على طول مساحة الشعرية العربية وعرضها، بما انطوت عليه من كمّ ونوع استثنائيين داخل الدائرة البحثية والنقدية الأكاديمية وغيرها.
نصّه يائسٌ بطريقة ثرّة، يفاجئ عقل القراءة ويقتحمه بخصبه في كلّ منعطف من منعطفاته، لا يمكن أن ترى اليأس بهذا الجمال إلّا في شعر السياب، ولا يمكن أن ترى الوهم بهذا السحر إلّا في شعر السياب، ولا يمكن أن ترى الألم المتفجّر كالينبوع وهو يتحوّل إلى صورة مرئية وملموسة ومشمومة ومحسوسة ومجسّدة وجارحة على نحو حقيقيّ خانق إلّا في شعر السيّاب. لغته ملتهبة بوهج مضيء وحارق في آن واحد، لا يمكن للقارىء أن يتخيّل أيّة مفردة من مفرداته الشعرية ساكنةً أو كامنةً أو هادئةً أو محايدةً أو غافيةً على سطح الورقة، بل هي صاحية ومتحفّزة للانطلاق، للتحليق، للتمرّد على سطح الورقة وبياضها ومكوثها، وهي تتمظهر بإيقاع وحشيّ يتجاوز الوزن والبحر والتفعيلة والقافية والزحاف والعلّة، منفتحاً على فضاء إيقاعيّ متشظّ ينتشر على كامل المساحة السمعيّة والبصرية الداخلية والخارجية في حاضر القراءة ومتخيّلها، ويستحيل استقبال طاقتها الموسيقية الفريدة الهادرة (خارجياً وداخلياً) من دون تمثّل حساسية الألم السيابيّ والوهم السيّابيّ في أعلى درجاته.
ربما يحقّ لنا أن نسأل ونحن نقارب شاعرنا القتيلَ المغدورَ الجائعَ العليلَ الضئيلَ الجسد، هذا الفتى الشعريّ النادر وقد رحل مبكّراً رحيلاً درامياً شائكاً على طريقة الكبار، ماذا لو أنّ حياته استمرّت حتى الآن، تُرى ماذا كان ليفعل؟ هل كان سيستمرّ بهذا الشحن العاطفيّ البليغ، والاكتظاظ الوجدانيّ الحازم، والاجتياح الباسل الشجاع للكون اللغويّ والصوريّ والإيقاعيّ المبتكر والأصيل؟ هل كان ليقول ما لم يَقُلْ وما لم يُقلْ؟
زميله وصديقه البارع أدونيس المتجدّد والمتألق أبداً، أنتج شعراً ونقداً وفكراً وحياةً وتجربةً ما تعجزُ عن إنتاجه مؤسسةٌ كاملةٌ مؤلّفةٌ من عشرات الشعراء والباحثين والمتخصصين، وأدونيس حليفُ السيّاب الشعريّ، وقلّما يتحالف أدونيس مع أحد لأنّه كونٌ وحدَه مثلما هو السيّاب، لولا أنّه يدركُ حتماً فداحةَ ما فعله السيّاب في جسد الشعرية العربية شأنه شأن كبار المجددين والحداثيين في تاريخ هذه الشعرية،
أدار السيّابُ بعمره القصير رأسَ الشعرية العربية ودوّخها، ولعلّ حجمَ ما كُتب عنه من كتب وبحوث ودراسات ومقالات يتجاوز ما كُتب عن جيل كامل من الشعراء، وربّما حين يتأمل القارئ والدارسُ والباحثُ المجتهدُ العارفُ في تجربة السيّاب بكلّ ظروفها الحياتية والشعرية، بكلّ التباساتها وحيويتها ومآسيها، قد يجد أنها مكتملة على نحو ما، وهي لا تحتاج إلى إضافة. فهل كان قَدَرُ نهاية حياة السيّاب متعلّقاً باكتمال تجربته الشعرية؟ هل استعجل السيّاب قولَ كلّ ما عنده في سنين قليلة كي يبقى عارياً أمام الحياة والرؤيا والأجل والمصير فلا مناص من رحيله؟ وبهذا تكون حياتُهُ ضحيةَ شعره؟ لا شكّ في أنّه سؤالٌ صعب لا أملك إلّا مغامرة إثارته، غير أنني مقتنعٌ في النهاية تمامَ الاقتناع بأنّ السيّاب قد قُتل بصرف النظر عن هويّة القاتل وطبيعته ومرجعيته، حتى وإنْ قيّدتْ حادثةُ القتل ضدّ مجهول.

محمد صابر عبيد