لطالما أثرى الجنوبيون الثقافة العربية، ورفدوها بالفنون الشعبية، وهذا ما جعل من صحة القول أن تحت كل حجر جنوبي شاعر من جبل عامل. لا شك بأن التراث الشعبي الجنوبي تعرّض، ويتعرض بعض ما بقي منه إلى الزوال، نتيجة لعوامل عديدة، ومن أبرزها السياسة وببعديها الأيديولوجي، والعقائدي، والتي وضعت الفنون في أقفاص الاتهام لمحاكمتها كابتذالات، أو كأعمال غير مجدية، ومجدية، وأنها تُلهي عن المساهمة الفعلية في الشعارات الثورية المطروحة لتغيير الواقع المزري في لبنان. لعب الشعر الشعبي دوراً مهماً في التعبير عن الأهواء العاطفية، وعن الإغواء السياسية، وفي مراحل جنوبية، ولم ينقطع دوره كوسيلة إعلامية تحشيدية واستقطابية زمن البكوات وصراعاتهم، وزمن الولادات الجديدة للبكوات المعاصرة، من نخب، وأطرٍ، وشخصيات، احتاجت إلى مدّاحين يسهمون في تعزيز السلطاويات البديلة. كما أن روح الشعر الشعبي والمتمثل في جوقات الزجل، أحرزت مكانة جنوبية لا زال الجنوبيون يختزنون معاركها القوية في الذاكرة الشعرية، المساهمة في بسط الحسّ الإنساني على بيئة ناشطة في عملية الإبداع. حتى السبعينات من القرن الماضي، أيّ قبل الاحتلال الإسرائيلي، لم ينم الشعر في الجنوب بل بقي حياً، يصنع نفسه بنفسه، لأنه يتحرك على أرضية صلبة وخصبة، فكانت الجوقات والاحتفالات والأعراس وليالي المواويل والارتجازات، في الأفراح والأتراح، تستمد دورها من تكئة تاريخية قديمة تكاتفت فيها، أجواء الفنون في الأدب والشعر، ولمعت فيها أسماء ما زالت مضاءة في زجاج الذاكرة، رغم ما يلف سراج الزيت من عتم وظلم. ما زال جيل العشرينيات يردّد ما يحفظ من أشعار شعبية، في السياسة الذّامّة أو المادحة لبيكٍ هنا وزعيم هناك، وفي الحب، وفي التحدي، ورغم شيخوخة العشرينيّين وأميّة الكثيرين منهم. إلاّ أنك تسمع منهم حقبة تاريخية كاملة يسردونها بطرائق مختلفة. والفنّ أحد وسائطها الأساسية. في حين أنك تجالس الجيل الحالي فتجد ذاكرة مثقوبة لا شيء من الفنون يقيم فيها. بالطبع ثمّة أسباب جوهرية كما ذكرت، تقف خلف افتقاد الجنوب لسيرته الشعرية الأولى، ويبدو أن السياسة عنصر أساس، في عدم إكمال مشوار الشعر الشعبي في الجهة والفنون كلها من جهة أخرى، فلم تعد جلسات التثقفية الشعرية، أو سهرات التّباري الزجلي، أو الاحتفالات غير الموسمية لجوقات الزجل، أو للمهرجانات الشعرية في الفصحى والعامية، سمة من سمات الجنوب مشعّة، بل تحولات البدائل الوافدة، مظاهر مستحيلة للواقع في الجنوب. في التواصل مع المعنيّين بالشعر الشعبي، ثمة مشترك بين المهتمين بصناعة الشعر، من خلال همزهم بمهماز الضرورة المطبقة على حياة الجنوبي، إذ أنّ استفحال الأزمة المادية، وصعوبة الحصول على الرغيف، يجعل الاقتراب من القلم والورقة نوعاً من الخبل، كما ان البيئة مسقطة بهواجس مشابهة وغارقة في مديونية الفقر المزمن، وبأسبابها السياسية والطائفية. يؤكد أستاذ الرياضيات الشاعر محمد حدرج، نزوع الشاعر إلى منزع الجماعة، أي أنه تماهى مع البيئة فنزل على سلمها وبات واحداً منها، لأنه لم يستطع أن يُصعد البيئة والمجتمع إليه، لأن الأزمة المفتوحة في الثقافة والوعي والرغيف واحتياجاته، أكبر بكثير من إمكانيّة الشّعر، وبالتالي لا يستطع الفن بعمومياته أن يلبي حاجات ليست من اختصاصه. يقول محمد حدرج: "رزق الله" على أيام لسعد، يوم كان الجنوب يموج بالذهب، من خلال حفلات جوقات الشعر من قانا وتبنين والبرج الشمالي إلى البازورية وزفتا. وطيلة ما يزيد عن خمسين سنة كان الشعر العاملي يحفر عميقاً في تراب الجنوب. ويعتبر حدرج أن سبب توقّف الكثير من الجوقات الجديدة، والتي غطّت أعمالها ما يزيد عن عشرين سنة، ناتج عن الأجواء والسياسية، وسلطة السياسة على كل شيء، واقتناء الناس للوسائط الإعلامية والتفرّغ لمشاهدة نشرات الأخبار، وآخر المسلسلات التلفزيونية المملة والطويلة والفارغة من أي مضمون معرفيّ وذوق أدبي. لقد اهتم الوسط اللبناني الوطني بالإبداع الشعري من خلال تلفزيون لبنان، الذي قدّم برامج هادفة غذّت الدعوات القليلة لإحياء التراث الشعبي، وقد ساهم محمد حدرج في قصيدة وطنية نوّه بها كل من المرحوم أسعد سعيد ووليم حسواني وآخرين كانوا في لجنة التحكيم، وفيها يقول الشاعر: لبنان حدّ النجم تلاّتو/ونجمين بيصلّوا عا أرزاتو/ الشمس بتصلي الصبح بكير/والقمر بيصلي بسهراتو/ لبنان جدول مثل طفل صغير/وادي بيمشي يظهر بياتو/ ورب السما لما نوى تفكير/يخلق الجنة بنور من ذاتو/ صور الجنة بروعة التصوير/طلعت الجنة مثل لبناني. ولبنان جنة مثل جنّاتو. يترحّم الشاعر حدرج على شعراء لم يتكرروا من قامة زين شعيب والسيد محمد مصطفى وعلى آخرين، من المنتسبين إلى الشجرة الزجلية المجتثة الآن من الجذور، وما زال يتوقف ملياً أمام حفلة حبوش حيث سطع قرص الشعر على شكل امرأة من نور ما زال الشعراء حتى الآن ينهلون من معينه الذي لا ينضب. ينهي الأستاذ حدرج قوله بالتأكيد على أن الشعر ما زال حيّاً لأن خلف الشعر امرأة تمنحه الحياة وفيها يقول: الفجر بوجك نورو لاح/ولبستي للورد وشاح/ ولما لمستي الجوري الورد/الورد الجوري بعطرو فاح والشاعر محمد بنوت قرأ في فنجان حدرج وأكّد صعوبة الاستمرار في مكان مع الزمن لتصحيح مسار بأدوات خجولة، من هنا يخوض الشاعر الجنوبي معركته مع ذاته، لذا يكتب ويقرأ "فرايد" في غرفته الخاصة والباردة، ويتحايل على الليل ليطفئ شمعة من شمعاتها تحريراً للعتمة من سلطة الضوء المشبوه. لحافي لـ بعطرك مرتوي ضمّيت/ ع قدّ ما توهمتك بقربي وصرت أحكي مع زوايا البيت/ يللي سلبني عواطفي صربة بحرقة نهيد وحسرة يا ريت/ عبّيت دمعي الفايض بقربه وجرحي اليائس بالفرح عزّيت/ مثل الـ بصدور بيغرز الحربِه يا خالفي يا كل ما تمنيّت/ وحقك الغربة بالأرض تربة