الروس يختبرون الحسم العسكري في حلب، امُّ المعارك السورية، في الأيام المقبلة، بانتظار الإدارة الأميركية المقبلة أو قبل صعودها، في غياب أي مؤشر على استئناف العملية السياسية، وفي الهامش الذي لا يزال يفصل الروس عن أقصى درجات الاستنزاف في سوريا، الذي تدفعهم اليه الولايات المتحدة، على ما قاله رئيس هيئة الأركان الأميركية جوزف دانفورد للكونغرس، وأن «روسيا لم تصل بعد الى حافة الاستنزاف» في سوريا، وهو ما يعني أن الاميركيين لن يتوقفوا عن دفعها اليه. ريثما ينضج التمهيد الناري وتنجح الخطة «باء» في تدمير خطوط دفاع المجموعات المسلحة في شرق حلب، وفتح ابواب بعض احيائها، تستعد دبابات الحرس الجمهوري الـ«تي 90» لمعارك الشوارع، وللعودة الى قلب المدينة الشرقي، واختراق خطوط التماس التي لم تتغير كثيراً ونبت على ركامها سواتر ترابية وشجرية، رغم أربعة اعوام من المعارك منذ تموز 2012. وفيما يعمل الجنرال سيرغي سيفركوف على تنفيذ الخطة الروسية باء في حلب، كان سيرغي روسي آخر، كنيته لافروف، يحث السامعين، وزيراً لخارجية روسيا، على الاعتبار من دروس الماضي»وعدم السماح بحصول كارثة في سوريا» كما في ليبيا او العراق، ويقول للصحافيين إنه لا خطة «باء» روسية في سوريا.
الخطة «باء»، التي يعمل سيرغي سيفركوف، قائد القوات الروسية في حلب على تنفيذها لتفادي الكارثة في سوريا، لم ترتجل بمجرد اسقاط غارات البنتاغون في دير الزور ضد الجيش السوري للهدنة التي حاول جون كيري تسويقها عبثاً لدى وكالة الاستخبارات الاميركية ووزير الدفاع آشتون كارتر.
الروس تعلموا بسرعة دروس هدنة 27 شباط الماضية الفاشلة، واستعدوا لما بعد اغلاق الكاستيلو. استنتجوا ان الادارة الاميركية الحالية اصبحت بيد صقور البنتاغون على ما انطوى عليه تساؤل لافروف «من الخارجية الاميركية او البنتاغون يقرر في الملف السوري»، قبل ان تجيب عليه مجازر الاميركيين في جبل الثردة، احد مفاتيح دير الزور، الذي سلمته طائراتهم الى «داعش» بعد ان قتلت الجنود السوريين من دون ان تأبه الى ان يؤدي ذلك الى تسليم حياة آلاف المدنيين المحاصرين في دير الزور الى سكاكين «داعش».
أمزجة الضباط الروس الذي قاتلوا في معارك الراموسة لمواجهة المجموعات المسلحة «تسورنت» الى حد كبير، بحسب ما يقوله السوريون الذين لم يوافقوا على هدنة شباط، واعتبروها احد اخطاء حلفائهم المميتة، فيما كان الروس يعتقدون انها فرصة لاطلاق العملية السياسية بشروط ميدانية افضل تفضي الى حل متوازن على اساس تفاهمات فيينا، تكبح المزيد من تدمير سوريا، وتعصم الروس من فخ الاستنزاف والأفغنة. مع حديث الهدنة الحالية، لم ينقطع الاعداد لما بعدها كي لا تعطى «جبهة النصرة» و «نور الدين الزنكي» و «استقم كما امرت» التي تسيطر على شرق المدينة، فرصة التقاط الانفاس، او اعادة التسليح او نشر قواتها وتنظيم خطوط الدفاع في المدينة، كما جرى في ظلال هدنة شباط. فعندما وقّعت عليها الولايات المتحدة بيد، كانت يدها الاخرى توقع عقود الاسلحة في رومانيا وبلغاريا وأوكرانيا لإعادة تسليح المجموعات المسلحة بعد عاصفة السوخوي الاولى. اتاح ذلك ايضاً للمجموعات المسلحة استعادة نصف ريف حلب الجنوبي، حتى خان طومان، وطرق ابواب حلب مجددا من جنوبها وغربها، واقتحام الراموسة، بوابة الجنوب، بعدما اغلق الجيش السوري بوابة الكاستيلو في الشمال.
كما ان خيار التصعيد العسكري، والحسم يبدو اقل كلفة من انتظار خيارات ديبلوماسية وتسوية لا شركاء فيها بسبب التعنت الاميركي، كما ان البقاء على ابوب حلب وحصارها، اكثر كلفة عسكرياً وديبلوماسيا من خيار اقتحامها على ان تصحّ قراءة من قرروا الذهاب نحو الحسم العسكري، من ان تؤدي عملية الاستيلاء على حي الشيخ سعيد الى تساقط بقية احجار المبنى الحلبي الشرقي وأحيائه بالسرعة التي يتصورها، والتي تشترط انجاز المهمة خلال شهر، علماً انه لم يقيض للجيش السوري، قبل الانخراط الروسي، فرصة اسقاط مدينة كبيرة محاصرة بهذه السرعة. كما ان الخيار العسكري اخف كلفة من تنكّب اعباء الحصار لمدينة لا يزال بين احيائها المدمرة ما يقارب الـ137 الف نسمة ، خصوصاً ان ادارة قوافل الاغاثة، وتدخّل المنظمات الاممية، وضرورات تأمين ممرات انسانية، والثمن الاعلامي لذلك الحصار، تفوق نسبياً كلفة ذلك الحسم. ويعمل الجيش السوري على استباق العملية البرية، بفتح معابر داخل خطوط التماس لتأمين انسحاب المدنيين، ودفع جزء من المسلحين الى وقف القتال، والخروج الى غرب المدينة.
العملية لا تزال جوية، بانتظار العملية البرية. وقد يستغرق التمهيد الصاروخي والمدفعي الثقيل على مواقع «جبهة النصرة» و «نورالدين الزنكي»، و «استقم كما امرت»، اياماً كما قال بيان للجيش السوري أمس. خمسة الاف مقاتل في الافواج التي يقودها العقيد سهيل النمر، ووحدات من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة السورية، تنتظر امر التقدم من محاور الراموسة القديمة جنوب المدينة، وطريق المطار الدولي، نحو حي الشيخ سعيد الذي يبدو حتى الان هدف كل العمليات الجوية، واحياء السكري والعامرية. وتؤدي العملية في جانبها التكتيكي الاول الى تعزيز معبر الراموسة جنوبا، وابعاد خطر المجموعات المسلحة عن طريق مطار حلب الدولي، الذي تهدده نيرانهم من الشيخ سعيد المشرف على تلك الطريق. كما تؤدي الى فصل احياء الانصاري والعامرية عن الكلاسة والصالحين والسفاهية والجلوم، لانبساط هذه الاحياء التي تحشد فيها المجموعات المسلحة امام مرتفع الشيخ سعيد، كما ستؤدي الى ايقاعها بين فكي كماشة الجيش السوري، شرقاً في الشيخ سعيد، والشق الغربي الذي يسيطر عليه.
حلب الشرقية قد تعود الى سوريا من بوابة حي الشيخ سعيد التي تسللت منها الغزوة التركية للمدينة قبل اربعة اعوام. الحي الذي سيحاول الجيش اختراقه يمثل العملية الاولى للجيش السوري لاستعادة منطقة مأهولة نسبياً بالسكان، منذ اقتحام بابا عمرو في العام 2012 قرب حمص. الوقت يلعب ضد اي محاولة لتأجيل العملية، رغم ان اولويات اخرى تنتظر السوريين، منها منع التمدد التركي نحو مدينة الباب. تسود تقديرات في غرفة العمليات المشتركة، ان عناصر نجاح اقتحام حلب الشرقية قد تضاعفت في الاسابيع الاخيرة، بسبب خلخلة كتلة الجماعات المسلحة، وتراجع ارداتها القتالية، ونقص مخازن الذخيرة والاعتدة الذي ظهر خلال المناوشات الاختبارية الاولى التي اجراها الجيش في بعض الغارات الجوية او عمليات الاختراق والقصف. ويقول الخبير الحلبي ان المجموعات المسلحة تعاني انهيارا نسبيا في بيئتها الحاضنة، وتضعضع جبهتها الداخلية. ويردف: الرهان توافق غير معلن أن الاتراك الذين جمدوا عمليات امداد المجموعات المسلحة في المدينة، اسهموا في خلخلة كتلتهم بمواصلة سحب المقاتلين من طوقها الغربي، وتجميعهم في ريف حلب الشمالي، من اجل اختراقه، حتى مدينة الباب.
ويقول خبير في غرفة العمليات المشتركة السورية الروسية من حلب إن الجزء الشرقي من المدينة قد ينهار في الاسابيع المقبلة، بمجرد اختراق الجيش لحي الشيخ سعيد، الذي يشكل ربع مساحة الشرق الحلبي المحاصر. وتكتيكياً، يسهل اختراق الشيخ سعيد بالمدرعات اكثر من غيره من الأحياء، بسبب ضعف الكثافة السكانية والعمرانية والاسمنتية، مقارنة بأحياء العامرية او السكري التي ينبغي ان يخوض الجيش معارك اكبر بين كتلها الاسمنتية الكبيرة. وخلال الايام الماضية لجأت «جبهة النصرة» و «نورالدين الزنكي»، الى اخلاء نقاط مهمة في منطقة الباب، والصالحين لتعزيز جبهة الدفاع عن الشيخ سعيد.
وظهر احد مؤشرات انهيار الجبهة الداخلية في حلب الشرقية، مع اقتراب الجيش السوري من استعادة معبر الكاستيلو شمال المدينة في تموز الماضي، واقفاله نهائيا. ذلك ان الامداد الذي يهدد المدينة بدخول الجيش السوري اليه، ليس قطعاً الامداد العسكري وحده، بل انقطاع شريان الامداد بالمواد الاولية الى مصانع حلب الشرقية التي تحولت الى ورشة صناعية كبيرة تعمل لمصلحة امراء الحرب فيها. اذ يقول خبير ورجل اعمال حلبي في المدينة لـ»السفير»، ان سقوط الكاستيلو بيد الجيش اغلق الباب على شرق المدينة الذي حوله امراء الحرب، وبعض اثريائها الى مصنع كبير يمد كردستان العراق عبر القامشلي وشرق سوريا، وحتى بعض المناطق الحكومية، وجنوب تركيا، بالكثير من السلع المصنعة باسعار تنافسية مهمة، تجني منها المجموعات المسلحة، لا سيما «النصرة» و «الزنكي» و «احرار الشام» و «استقم كما امرت» جزءا كبيرا من العائدات لنيل السلاح.
وعملت مئات الورشات والمصانع المتوسطة في الكلاسة لمصلحة «جبهة النصرة»، وأمسكت «الزنكي» في حلب وغربها بصناعات الأدوية، الصحيحة والمزورة، وسيطرت المجموعات على مستطيل صناعي من المناشر يمتد أربعة كيلومترات على مجرى نهر القريق، من جسر الحج جنوب المدينة، حتى حي الصالحين. وبينما عمل التهريب من تركيا على توفير المواد الاولية من دون رسوم جمركية، على خفض كلفة الانتاج، وفر «داعش» تزويد المجموعات المسلحة وورشات امرائها رجال الاعمال، بالنفط والغاز الضروري بنصف الاسعار السائدة في المناطق الحكومية. ومنذ ان اغلق الجيش طريق الكاستيلو، كان العد التنازلي، للمعجزة الاقتصادية التي ادارها امراء الحرب في حلب قد بلغ نهايته، اذ عندما دخل الجيش الى الكاستيلو، كانت اكثر الورشات الصناعية قد اغلقت، بعد ان فقدت اسواقها التركية والكردية ومصادر موادها الاولية. وخلال الايام التي تلت، هجرت كوادر الورشات والمجموعات المسلحة وامراء الحرب معاً المدينة، وفقد الالاف من العاملين فيها مصادر عيشهم، وتحولت حلب الشرقية الى ثمرة، يجزم خبير في غرفة عمليات حلب، انها اينعت وحان قطافها.