يبدو أنّ لبنان، في ظلّ الأفق المسدود في المنطقة بشكل عام، محكومٌ بأن يبقى مرميّاً في قعر الأزمات، وبأن يبقى حبلُ التعقيدات مشدوداً على رقبته إلى ما شاء الله. وفي هذه الأثناء برزت أمس الزيارة التي قامت بها سفيرة الولايات المتّحدة الأميركية في لبنان إليزابيت ريتشارد إلى رئيس مؤسسة «الإنتربول» نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية والدفاع السابق الياس المر، حيث تمّ بحث الأوضاع والتطوّرات العامّة.
باتَ الحديث عن الملفّ الرئاسي باعثاً إلى الملل ونوعاً مِن العبث الذهني الذي لا طائل منه، وصار استِذكار مجلس النواب العاطلِ عن التشريع أشبَه بصراخ في صحراء بلا صدى، وصارت مقاربة الحكومة بشللِها ومتاريسِها وتناقضاتها وتجاذباتها وعجزها وتقصيرها وغيابِها عن أبسط هموم المواطنين، أشبَه بالبكاء الفارغ على الأطلال.

ومِن وسط هذا الركام السياسي، انبَعثت أزمة النفايات مجدّداً لتحجز مكاناً لها، إمّا دائماً أو موَقّتاً أو موسمياً، على الحلبة الداخلية، كمادة مشتعلة جاهزة للاستثمار بأبعادها السياسية والمصلحية والمزايداتية، بعدما استعصى الدخول عن قصدٍ أو عن غير قصد، عن عجزٍ أو عن غير عجز، إلى «مغارة النفايات» لاجتراح الحلول لهذه الكارثة، أوّلاً رحمةً بالناس، وثانياً للنأي بلبنان عن أن يجمع في آنٍ واحد صفتَي التلوّث البيئي والتلوّث السياسي، مع ما يترتّب على ذلك من انهيارات لا تُحمد عقباها.

في هذا الجوّ، تزداد الهموم وتتوالى، كأنّه مكتوب على اللبنانيين أن يُراكموا المشكلات والأعباء على أنواعها، الهمّ السياسي المزمِن باتَ مستعصياً، والهمّ الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي ضاغطٌ على كلّ المفاصل، وهمُّ النفايات حدِّث ولا حرَج، ولكن أكثرها حساسيةً هو الهمّ الماليّ للدولة، المهدَّد بالانحدار أكثر في غيابِ الموازنة العامّة للسنة الحادية عشرة على التوالي. إضافةً إلى إمكان تعرّضِه لخطرٍ خارجي في الآتي من الأيام عبر إدراج لبنان على اللوائح السوداء.

الهمّ المالي

فعلى مسافة 24 ساعة من بداية شهر أيلول، تعود إلى الواجهة أزمة عجزِ لبنان عن الالتحاق بالقوانين الماليّة الدولية التي تضمن بقاءَه في النظام المالي العالمي، وتهدّد من جديد بإدراجه على اللوائح السوداء، في ظلّ الأزمة الحكومية القائمة، والتعطيل السياسي على أكثر من مستوى، وانسدادِ الأفق أمام أيّ حلول في ما يتعلّق بعودة عملِ المؤسسات الدستورية.

في هذا السياق، علمت «الجمهورية» من مصادر مصرفية أنّ لبنان التزَم توقيع اتفاقية «غاتكا» لكنّه لم يوقّعها بعد، ويُفترض أن يفعل ذلك في شهر أيلول. وكشفَت المصادر أنّ التقرير الأخير للأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أنجيل جوريا، والذي أعلن عنه خلال اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين في الصين، أشار إلى أنّ لبنان يقع بين الدول التي سيَصعب عليها الانتقال إلى المرحلة الثانية من نظام «غاتكا»، أي التوقيع على الاتفاقية خلال المهلة المحدّدة.

ولفتَت المصادر إلى أنّ تقرير منظمة التعاون اتّسَم بالسلبيّة تجاه لبنان، وأشار إلى أنّ البلد يعاني من مشاكل قانونية، وأنّ هناك مشاريع قوانين يجب أن تُبتّ في مجلس الوزراء ومجلس النواب لكي يتمّ التوقيع على الاتفاقية، «وهذه المشاكل تتعلّق بالسرّية المصرفية وغيرها».

يأتي هذا الهمّ المالي الجديد متزامناً مع نتائج الفصل الأوّل من العام 2016، والتي أظهرَت ارتفاع الإنفاق بنسبة 10 في المئة، وانخفاضِ الإيرادات بحوالي 7 في المئة، بما يُنذِر بتفاقُمِ أزمة الماليّة العامة، وارتفاعِ وتيرةِ نموّ الدَين العام، في ظلّ تراخٍ يشير إلى أنّ مشروع موازنة 2017 الذي رفعَته وزارة المالية إلى مجلس الوزراء، قد ينضمّ إلى ما سبَقه من مشاريع موازنات للأعوام السابقة، بقيَت في الأدراج حبراً على ورق.

السياسة: مشاورات

في السياسة، مراوحة شاملة، يكسرها حراك متقطّع أقرب ما يكون إلى التسلية السياسية في الوقت الضائع. المستويات السياسية مشغولة في اتّجاهين: الأوّل كيفية تجاوُز الاستحقاق العسكري وتمرير التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي الذي يبدو أنّه أصبح وشيكاً، والثاني كيفية احتواءِ الاعتراض «العوني» على هذا التمديد.

وعلى هذا الأساس، ارتفعَت وتيرة الاتصالات العلنية وغير العلنية، بين الرئاستين الثانية والثالثة من خلفية التأكيد على الحفاظ على الجسم الحكومي حتى ولو كان هيكلاً عظمياً، وكذلك بين القوى السياسية، وخصوصاً بين عين التينة والرابية، حيث تسجَّل زيارات وحركة موفدين بين المقرَّين.

وتعكس الاتّصالات بين الرابية وعين التينة ما يمكن وصفُها بـ»الليونة السياسية» بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون، وهو أمر تؤكّد عليه أوساط الطرفين.

وتحدّثت مصادر سياسية لـ«الجمهورية» عن مروحة اتّصالات بين الرابية وقوى سياسية وكذلك مع عين التينة ، آملةً في أن تؤدّي إلى إيجابيات وتفاهمات.

وقالت: الساعات التي تسبق انعقاد اجتماع الـ«تكتّل» عصر اليوم، ستكون حافلةً بالاتصالات على غير صعيد، مشيرةً إلى أنّ البحث لا يتركّز فقط على جلسة مجلس الوزراء المقبلة وما يمكن أن يكون موقف «التكتّل» منها بالمشاركة أو عدمها، بل إنّ التركيز هو على طاولة الحوار المقبلة.

وردّاً على سؤال عن الخطوات العونية التي يمكن أن تتّخَذ في ضوء هذه الاتصالات، قالت مصادر في «التيار الوطني الحر» لـ«الجمهورية»: نحن دائماً إيجابيون، وفي ما خصّ الاتصالات سنبني على الشيء مقتضاه.

وليس مستبعَداً أن يَصدر عن «التكتل» اليوم موقفٌ في سياق خريطة طريق التحرّك التي حدّدها «التيار الوطني الحر» الأسبوع الماضي.

برّي: الوقت يسبقنا

إلى ذلك، أكّد بري القول أمام زوّاره أن لا جديد على المستوى الرئاسي، مكتفياً بالقول: الوقت يوشك أن يسبقنا، وأخشى، إنْ بقينا في مربّع السلبية كما نحن الآن، أن يسبقنا أكثر فأكثر ولا يعود في إمكاننا اللحاق به». وهذا الموضوع، كما أكّدت أوساطه قد أفرَد بري له حيّزاً مهمّاً في الخطاب الذي سيلقيه في مهرجان الإمام موسى الصدر في صور غداً الأربعاء.

ليونة حريرية ـ عونية

مِن جهة ثانية، وعلى رغم الأجواء السلبية التي حَكمت الحوار الرئاسي الأخير بين الرئيس سعد الحريري وعون، وما تردَّد عن وصول هذا الحوار إلى طريق مسدود، تلاحَظ الليونة المتبادلة ما بين «بيت الوسط» والرابية، وسط حديث مصادر واسعة الاطّلاع عن أنّ الطرفين لم يقطعا الأملَ من الحوار بينهما، وما زالت الرابية تنتظر خطوات إيجابية من «بيت الوسط» حيالها في أي لحظة.

هذه الليونة ماثلةٌ أيضاً في «المستقبل»، حيث أكّدت مصادرُه أهمّيةَ الحوار مع عون وضرورتَه. وأقرّت بوجود مناخ مفادُه أنّ هناك قناعةً قد أصبحت راسخة عند البعض في تيار «المستقبل» و 14 آذار وخارجَهما، بأنّ الفراغ قاتلٌ للبلد وللجميع، وما بين استمرار هذا الفراغ وبين انتخاب عون رئيساً للجمهورية، يبقى انتخاب عون أهونَ الشرَّين.

ورمت المصادر كرةَ المسؤولية في اتّجاه «حزب الله»، وسألت: لماذا لم يقُم الحزب بأيّ جهدٍ لانتخاب عون رئيساً؟ فبدلَ أن يقول إنّ المشكلة في السعودية ومِن السعودية، فلو أراد «حزب الله» إيصالَ عون إلى الرئاسة فإنّه يستطيع في لحظة واحدة رفعَ سمّاعة الهاتف والتحدّث مع المرشّح سليمان فرنجية، فتنتهي القصّة بانتخاب عون رئيساً، كما أنّه يستطيع أن يتحدّث مع الرئيس بري حول الموضوع نفسِه، ونحن سنكون أوّلَ المهنّئين.
على أنّ اللافت للانتباه ، كانت زيارة عضو كتلة «المستقبل» النائب سيرج طورسركيسيان إلى الرابية ولقاؤه عون.

وفيما أعطى طورسركيسيان لزيارته بعداً شخصياً ومبادرةً فردية، وغاب عن السمع تاركاً للتأويلات والتفسيرات أن تأخذ مداها، خاصةً بعد إدلائه بموقف يوحي وكأنّ تحوّلاً ما قد شابَ موقفَه من تأييد ترشيح عون لرئاسة الجمهورية، تردّدَ أنّ هذه الزيارة ترَكت انزعاجاً في بعض أوساط كتلة «المستقبل»، فيما قاربَها البعض الآخر ببساطة كلّية، مُبرّراً للنائب طورسركيسيان هذه الخطوة، على اعتبار أنّه يتمتّع بخصوصية معيّنة لها علاقة بدائرته الانتخابية.

مجدلاني

ووصَف عضو «المستقبل» النائب عاطف مجدلاني زيارةَ طورسركيسيان إلى الرابية بأنّها «كوَيسة»، وقال لـ«الجمهورية»: نحن مِن دعاة الانفتاح والتواصل مع جميع الأفرقاء السياسيين، والزيارةُ تصبّ في نفس الاتّجاه، لذلك لا أرى فيها أيَّ إشكالية. نحن مع الانفتاح والتواصل مع الجميع، لأنّ الحوار هو السبيل الوحيد لحلّ أيّ خلاف».

وإذ نفى عِلمه بأن يكون زميله مكلّفاً بأيّ مهمّة من الرئيس سعد الحريري، قال: «أستبعد ذلك»، لافتاً إلى أنّ التواصل بين نادر الحريري والوزير جبران باسيل «مستمرّ حسبَ معلوماتي».