زفّت القاع عرسانها الخمسة في عرس مهيب بمشاركة رسمية وسياسية وكنسية وشعبية، ورافقتهم في رحلتهم الاخيرة بالدموع والزغاريد، واحتضنتهم في قلبها، وقالت كلمتها صريحة عالية بالوفاء لهم، وعهداً، بمنع تدنيسها من قبل شياطين الارهاب والجاهلية، مصّاصي الدماء باسم الدين... والى ذلك، ظلّ الهاجس الارهابي متقدماً على كل ما عداه، التحقيقات العسكرية مستمرة في الهجوم الارهابي على القاع، مترافقة مع إجراءات ميدانية مكثّفة للجيش اللبناني وعمليات عسكرية متصاعدة على الحدود اللبنانية السورية المترافقة مع قصف مركّز على مواقع تمركز المجموعات الارهابية في الجانب السوري من الحدود. وذلك بالتزامن مع مداهمات متتالية تنفذها الوحدات العسكرية بحثاً عن الإرهابيين في العديد من المناطق اللبنانية، والجديد في هذا السياق إنجاز وُصِف بالمهم جداً، حقّقه الجيش وتمثّل بإلقاء القبض على شخص يوصف بـ»الرأس الكبير»، كتدليل على خطورته، وله ارتباط مباشر بعمليات إرهابية كانت قيد الاعداد.

الهاجس الارهابي ظلّ وحده الطاغي على كل ما عداه، ولبنان في ظل هذا الجو القلق واقع على خط المعاناة، يسير على طريق الجلجلة، في منطقة تغلي، وتعصف بها موجات كثيفة من العنف والارهاب.

ولكي لا يطول درب الآلام أكثر، يفترض ان تستمر الدولة في استنفارها السياسي والامني والعسكري، ربطاً بالمستجدات المتلاحقة في المنطقة، وكذلك التطورات الداخلية الاخيرة، وبروز العامل الارهابي وظاهرة الانتحاريين، وهو الامر الذي استغلّه بعض من تَصحّ تسميتهم بـ«إرهابيي الغرف السوداء»، لإغراق البلد بشائعات واختلاق روايات لا أساس لها عن استهدافات إرهابية في هذه المنطقة او تلك، فرضت جوّاً من التوتر والقلق الشديد في صفوف المواطنين.

في هذا الوقت، أكدت مصادر التحقيق الجاري حول الهجوم الارهابي على بلدة القاع، انّ هويات الانتحاريين باتت معلومة بالكامل لدى مخابرات الجيش اللبناني، وعلى رغم عدم إعلان ايّة جهة تبنّي التفجيرات، الّا انّ كل الدلائل ترجّح انتماء الارهابيين الى التنظيم الارهابي «داعش».

وفيما ذكرت بعض المصادر انّ من بين الانتحاريين مَن عمره 15 عاماً، أكدت مصادر التحقيق انه من الواضح انّ التنظيم الارهابي يعتمد على اصحاب الاعمار الصغيرة، إذ انّ وجوه الانتحاريين تدلّ على انّ اعمارهم ما بين 18 و19 و20 سنة.

هل سلكوا «تلة الصليب»؟

وفي السياق، ما زال الغموض يكتنف كيفية وصول الارهابيين الى القاع، والهدف الحقيقي لعمليتهم. وشَكّكت مصادر امنية غير رسمية بإمكان قدوم الانتحاريين من خارج المنطقة، مرجّحة ان يكون انطلاقهم من «تجمّعات معينة» في الداخل، الّا انّ مصادر عسكرية اكّدت فرضية قدوم الانتحاريين جميعاً من خارج الحدود، وقد يكونون قد تسللوا من الجانب السوري عبر مسلك يسمّى «تلة الصليب».

ولفتت المصادر الانتباه الى انّ التحقيقات الجارية لا تقف عند فرضية انّ عدد الانتحاريين هو 8 الذين فجّروا أنفسهم في القاع، بل هي تتوسع نحو احتمالات اخرى، وهي ان يكون العدد اكثر من 8، وما زال الآخرون متوارين في مناطق قريبة من القاع، وعلى هذا الاساس تمّ تكثيف عمليات الدهم والملاحقة.

ولا يلغي التحقيق، بحسب المصادر، احتمال أن تكون القاع هي المستهدفة، الّا انه يدور ايضاً حول فرضيات أخرى، لعلّ اكثرها قُرباً الى الواقع هي انّ الارهابيين الثمانية كانوا يتخذون من القاع نقطة انتظار مؤقتة، ومن ثم الانطلاق الى مناطق اخرى لتنفيذ عملياتهم، ويرجّح هنا بعض البلدات في بعلبك حيث كانت هناك تجمّعات لإحياء ليلة القدر. وكذلك منطقة الضاحية الجنوبية.

ولفتت المصادر الى أنّ الانتباه الى انكشاف الارهابيين، قد يكون أحبط المخطط الاساسي الذي رَسمه المشغّلون، ولذلك فجّر هؤلاء أنفسهم بطريقة عشوائية. وقد اتخذت اجراءات امنية مشددة، وضرب الجيش طوقا أمنيا مشددا حول القاع، الامر الذي جعل الدخول اليها والخروج منها أمراً صعباً جداً.

ويبدو انّ الارهابيين الاربعة الذين كانوا ما يزالون متوارين شعروا انّ إمكان نفاذهم الى خارج القاع بات صعباً، فاختاروا ان ينتحروا عشوائياً على أن يَقعوا في الأسر. فَفجّر أحدهم نفسه قرب المتضامنين مع الشهداء في كنيسة البلدة، وفَجّر آخر نفسه قرب ملّالة للجيش، وفَجّر ثالث نفسه قرب مركز مخابرات الجيش في البلدة.

مرجع أمني: الإنتحاريون مجموعة واحدة

الّا انّ مرجعا امنيا قال لـ«الجمهورية»: التحقيقات لم تنته الى حسم الكثير ممّا نريده للإحاطة بالجريمة من جوانبها المختلفة، فالعملية تبدو جديدة في الشكل والمضمون ولم نتمكن الى اليوم من الوصول الى أية معلومة تدلّ الى أهدافهم الحقيقية.

ولكن ما هو ثابت، يضيف المرجع، انّ الارهابيين مجموعة واحدة تَوزّعوا الأدوار بين مجموعتي الفجر والليل، بدليل انهم مدربون على تنفيذ العملية بالأسلوب نفسه، وقد فجّروا أنفسهم بالطريقة عينها وكأنهم مستنسخون عن بعضهم بعضاً.

ورداً على سؤال قال: «المعلومات تشير الى انّ الارهابيين حضروا الى البلدة مجهّزين سلفاً بالأحزمة، ولم يظهر انهم استخدموا أحزمة وُضعت في الغرفة التي دخلها الإعلاميون أمس.

وختم المرجع بالقول: تبقى المفاجأة الوحيدة انّ المجموعة تعتبر كبيرة، وانها المرة الأولى التي ينفّذ مثل هذه العملية 8 إنتحاريين كمجموعة واحدة.

فحوصات الـ«دي آن آي»

وفي جديد التحقيقات الجارية لمعرفة هوية الإنتحاريين تبلّغ مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر عصر أمس انّ جميع الإنتحاريين من الرجال وليس من بينهم امرأة، وانّ الصورة التي التقطت لرأس أحد الإنتحاريين لا تعدو كونها لرجل له شعر طويل.

وقالت مصادر قضائية لـ«الجمهورية» انّ التقرير الذي أعدّه فريق من الأدلة الجنائية بإشراف الدكتور فؤاد ايوب حسم أمر كونهم من الرجال نتيجة فحوص الـ»دي آن آي» التي انتهت عصر أمس وأبلغت الى القاضي صقر.

القبض على «الرأس الكبير»

وعلمت «الجمهورية» انّ خيط التحقيق الذي يُجريه التحقيق العسكري لا ينحصر بالهجوم الارهابي على القاع حَصراً، بل هو ممتدّ الى مناطق بعيدة وصولاً الى بيروت والضاحية والجنوب، في ظل تراكم معطيات وأدلّة حسية، وخيوط دقيقة، باتت لدى مخابرات الجيش، مُعزّزة باعترافات صريحة من قبل بعض الموقوفين، عن نوايا وخطط واهداف، مَكّنت الوحدات العسكرية من تحقيق إنجاز امني كبير، تجلى في الاطباق على أحد الرؤوس الكبيرة، وبالتالي إحباط عملية إرهابية كبرى قبل تنفيذها بوقت قصير.

وتحفّظت المصادر على تحديد المكان المستهدف، الّا انها أشارت الى انّ الساعات القليلة المقبلة قد تكون كفيلة بجلاء كل الصورة عبر بيان مفصّل يصدر عن الجهات المعنية.

واشارت مصادر عسكرية الى تكثيف الاجراءات العسكرية في الفترة المقبلة في كل المناطق اللبنانية، وخصوصاً مع حلول عيد الفطر، فيما قال مرجع أمني لـ«الجمهورية» انّ «الجيش يقوم بما هو مطلوب منه، ونُشدّد اننا لسنا في حالة خوف، إنما نحن حذرون ومُحتاطون في أعلى جهوزيتنا للحفاظ على الاستقرار والأمن وتماسك المجتمع.

وحذّر المرجع من الشائعات التي تطلق من هنا وهناك، معتبراً انّ وقعها قد يكون أخطر من العمليات الارهابية نفسها، مُطمئناً الى انّ الأمن تحت السيطرة، والارهابيين لن يستطيعوا ان يجعلوا من بلدنا مقرّاً لهم، ويبدو انّ هؤلاء الارهابيين في حالة ضياع جرّاء ما يتعرضون له في العراق وسوريا، ولذلك تراهم يبحثون عن ساحات بديلة للردّ، فها هم يستهدفون الاردن قبل ايام، وقبل يومين استهدفوا القاع، وبالأمس استهدفوا تركيا.

لسنا قلقين على الوضع الداخلي، قد يستطيع الارهابيون النفاذ من بعض النقاط، الّا انهم لن يستطيعوا ان يغيّروا في الواقع اللبناني شيئاً، إذ انّ ما يقومون به لا يعدو أكثر من أذية موضعية...

وينتظر ان تحتلّ المستجدات الارهابية جانباً من خطاب الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي سيُلقيه غداً في مناسبة يوم القدس. فيما برز أمس موقف لرئيس مجلس النواب نبيه بري حذّر فيه من الاستمرار بالدوران في الازمة، مشدداً على وحدة الصف اللبناني في مواجهة الخطر الارهابي التكفيري.

وقال في «لقاء الاربعاء النيابي» انّه «في مقابل الاستهداف الانتحاري الارهابي لأمن لبنان واستقراره نحن نمارس انتحاراً منذ اكثر من سنتين ونصف من خلال الشغور الرئاسي وتعطيل المؤسسات».

الى ذلك، تلقّى لبنان دعماً بريطانياً لأمنه واستقراره، نَقله السفير في بيروت هيوغو شورتر الى كلّ من رئيس الحكومة تمام سلام ووزير الخارجية جبران باسيل، مع تأكيد الوقوف الى جانب لبنان في مواجهة الإرهاب، وحماية حدوده وتعزيز فرَص العمل وسبل العيش والتعليم والمساعدة على مواجهة تداعيات الأزمة السورية.

المظلّة الدولية... مستمرة

من جهة ثانية، أبلغت مصادر دبلوماسية «الجمهورية» قولها «انّ المظلة الدولية لاستقرار لبنان لا تزال قائمة، شأنها شأن المظلة الاقليمية. وبالتالي، لا خوف على لبنان، والغطاء الامني لا يزال مستمراً، على رغم الاحداث الامنية التي شهدتها البلاد منذ يومين.

خصوصاً انّ هذا الاستقرار أولوية ومصلحة وضرورة دولية وإقليمية، وتحديداً أميركية وروسية وايرانية. مشيرة الى تَلقّي مستويات رسمية رفيعة، تطمينات صريحة من مراجع دولية، وأميركية على وجه الخصوص.

وقالت انّ عدم استقرار لبنان بالنسبة الى تنظيم «داعش» وجبهة «النصرة» يتوقّف على قوتهما، وحتى الآن قوتهما محدودة، فهما يستطيعان اختراق الجدار الامني في لبنان كل فترة كما في المرات السابقة لتنفيذ أعمال تفجيرية في أمكنة معينة، لكن لا قدرة لهما على تنفيذ هجوم كاسح لأنّ الغالبية الساحقة من اللبنانيين تقف ضد هؤلاء الارهابيين وهي جاهزة لمحاربتهم. وبالتالي، لا بيئة حاضنة لهم على رغم تعاطف البعض القليل معهم.

ولفتت كذلك الى انّ هؤلاء الارهابيين لديهم معارك قاسية في سوريا ويدافعون عن أماكن تواجدهم، وبالتالي ليسوا جاهزين لفتح جبهة طويلة عريضة وخاسرة في لبنان.

واستبعدت المصادر أن يصرف الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي الاهتمامات الدولية عن لبنان، خصوصاً انّ الدول الكبرى لديها اجهزة، وكل جهاز يهتمّ بملف معين في الوقت نفسه، إنما الغطاء الدولي للبنان هو لمصلحتهم. كما هو لمصلحة لبنان. ومصلحتهم ايضاً تكمن في عدم نشوب حرب أهلية فيه وبقاء الجبهة اللبنانية هادئة.

وفي مناسبة زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان مارك ايرولت الى لبنان، استبعدت المصادر ان يحمل معه حلاً للمأزق الرئاسي. فبشائر هذا الحل لم تظهر بعد. وربما تكون زيارته مندرجة في إطار الجهود التي تبذلها باريس لفَكفكة العقدة الرئاسية.

ورداً على سؤال، قالت المصادر الدبلوماسية: واشنطن لا تهتمّ بكل شاردة وواردة في لبنان، فالاهتمام هو بالاستقرار فيه. وحتى الآن، هي لا تعتبر انّ وجود رئيس جمهورية سيبدّل كثيراً في الاستقرار، فالاستقرار موجود و«ماشي حالو»، لكنها لن تتدخل في الشؤون الداخلية لأنّ الهدف هو الاستقرار وهو موجود.

امّا فرنسا فلديها علاقة خاصة بلبنان، لذلك انّ اندفاعها لمعالجة الملف الرئاسي اقوى، وتحاول بذل جهد لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. امّا الدول الاخرى فلا ترى انه بعدم انتخاب الرئيس ستنشب حرب أهلية في لبنان على رغم التصريحات الصادرة من هنا وهناك.

يتقاطع كلام المصادر الدبلوماسية مع ما ذهب اليه مصدر سياسي لناحية القول: الاميركيون والروس والعرب يريدون استقرار لبنان، لكنّ ذلك لا يعني انهم سيُنزلون أساطيلهم من أجله، او يستطيعون منع حدوث اي شيء أمني كما جرى في القاع مثلاً. فالمظلّة الدولية لا تمنع حدوث عمليات مشابهة.

لكنّ المصادر رأت انّ ما يجري حالياً لن يتسبّب بفتنة، وانّ الاستقرار يهتزّ لكنه لن يقع، لأن لا احد من اللبنانيين سيقع في الفتنة، والجميع دانوا ما حصل.

وذكرت مجدداً بأنّ القوى الدولية والاقليمية تريد الاستقرار في لبنان، لكن يجب أن لا نزيد نحن عبارة خط أحمر، أي انهم سيهجمون بجيوشهم وطائراتهم واساطيلهم اذا حدث شيء.

مجلس الوزراء... تعيينات

من جهة ثانية، يعود مجلس الوزراء الى الانعقاد في جلسة عادية اليوم، وينتظر ان يطغى عليها الموضوع الامني، بالإضافة الى تناول مجموعة من الملفات.

وعلمت «الجمهورية» انّ هناك توجّهاً لدى الحكومة للسّير بتعيينات ادارية، من بينها تعيين القاضي محمود مكية محافظاً لجبل لبنان وإلغاء انتداب أحد المحافظين القضاة وتعيين بديل عنه بسبب عدم رضا القوى السياسية الرئيسية عن أدائه، إضافة الى تعيين عضو للمجلس الأعلى للجمارك ورئيس للمجلس الاعلى للتنظيم المدني، كما سيتم وضع كل من مدير مرفأ بيروت ومدير عام هيئة اوجيرو بالتصرّف وتعيين بديلين عنهما إضافة الى تعيين مدير عام للصيانة والاستثمار في وزارة الاتصالات بدلاً من عبد المنعم يوسف.

ويبحث مجلس الوزراء اليوم في تجديد عقد شركتي الخلوي، وتحويل أموال لتأمين كلفة استملاكات توسيع اوتوستراد نهر الكلب ـ طبرجا بقيمة 32 مليون دولار.