اكتملت الاستعدادات لانطلاق الجولة الأخيرة من الانتخابات البلدية والاختيارية في الشمال وعكار، حيث يتوجه الناخبون الذين يبلغ عددهم نحو 580 ألفا، إلى صناديق الاقتراع غدا الأحد لاختيار مجالسهم البلدية التي تقع عليها مسؤولية إزالة صفة الحرمان والإهمال عن كثير من المدن والبلدات والقرى الشمالية التي كانت على مدى السنوات الماضية أسيرة مركزية قاتلة، وتهميش رسمي أدى إلى ارتفاع المؤشرات الاجتماعية السلبية (فقر وبطالة ونزوح وهجرة وتسرّب مدرسي).
ومع وصول قطار الانتخابات البلدية والاختيارية إلى محطته الأخيرة التي من المتوقع أن تكون آمنة، بفعل الإجراءات المشددة التي اتخذتها الأجهزة الأمنية في مختلف الأقضية الشمالية، من المتوقع أن يحظى ملف الانتخابات النيابية باهتمام محلي وخارجي استثنائي، بعدما انتفت مبررات التمديد، لا بل ثمة دعوات إلى تقصير ولاية المجلس الممدد له.
ولا شك في أن هذا الاستحقاق النيابي بات أمراً واقعاً في العام 2017، بعدما دخلت اللعبة الديموقراطية إلى كل بلدة في لبنان، بعد توقف دام ست سنوات بالتمام والكمال، وبالتالي فإن التمديد الثالث للمجلس النيابي الحالي بات أمراً غير مطروح، بعد الجهوزية الإدارية واللوجستية والأمنية التي أظهرتها الدولة، وتحديداً وزارة الداخلية التي أتمت العملية الانتخابية البلدية والاختيارية بنجاح.
كثيرة هي النتائج التي ستفرزها صناديق الاقتراع في الشمال وعكار، وهي من شأنها أن تحدد أحجام القوى السياسية المختلفة، سواء كانت متحالفة أو متنافسة، وأن ترسم مشهداً جديداً للخريطة السياسية الشمالية، لا سيما بعد المستجدات التي طرأت مؤخراً، وقلبت المشهد السياسي في لبنان رأساً على عقب.
وللانتخابات البلدية الشمالية تداعياتها وتأثيراتها على المشهد العام في الانتخابات النيابية في العام 2017، وربما قبل ذلك، إذا تم التوافق على تقديم موعد هذا الاستحقاق، وهو أمر ما يزال غير محسوم لا بل مستبعداً، كما ستكون لانتخابات الغد إشارات لجهة البعد الأمني للقرى والبلدات المحاذية للحدود مع سوريا، والتي لطالما انعكست الحرب السورية عليها.
وليس خافياً على أحد أن الانتخابات، سواء كانت نيابية أو بلدية في الشمال، ليست بعيدة عن معطيات إنتاج الزعامة السنية في لبنان، فمنذ العام 2005، بنى الرئيس سعد الحريري زعامته على أصوات الشماليين الذين كانوا أوفياء لدماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومنحوا «قوى 14 آذار» الأكثرية، وسلّموا رئيس «تيار المستقبل» لواء الزعامة السنية في لبنان.
لكن الانتخابات البلدية والاختيارية الحالية، من بيروت إلى صيدا مرورا بالبقاع والجبل، وما رافقها أو سبقها، أفرزت معادلة جديدة: طي صفحة أحادية الزعامة السنية في لبنان. برز ذلك مع تراجع شعبية الحريري الذي طلب من تياره أن ينأى بنفسه عن كثير من المعارك الانتخابية في مناطق وبلدات كان يعتبرها خزاناً شعبياً له، لا سيما في الضنية والمنية وعكار، وذلك بسبب الأزمة المالية التي تعصف به وانعكست سلباً على تقديمات تياره وخدماته في جميع المناطق اللبنانية.
كما أبرزت معطيات سعودية، أولوية «لمّ شمل السنّة في لبنان»، وبالتالي ليس الزمن زمن «حصرية» أو «أحادية» وترجم ذلك فتح الأبواب أمام الوزير السابق عبد الرحيم مراد ثم بتكريس التوافق في البقاع الغربي، وفتح الباب أمام التحالف مع «الأحباش» في طرابلس، والأهم من ذلك كله، إبداء الرئيس الحريري رغبته بالتحالف مع الرئيس نجيب ميقاتي بعد المصالحة التي جمعتهما في دارة رئيس الحكومة تمام سلام، وركونه إلى الشروط التي وضعها ميقاتي لهذا التحالف، سواء في طرابلس أو في الميناء، مع الأخذ في الحسبان عدم قدرة الحريري على خوض أي استحقاق بمفرده في ظل أوضاع تياره الراهنة من جهة، ونجاح الماكينة الميقاتية بالقضم التدريجي من جهة ثانية.
وقد أفرز هذا الواقع الطرابلسي ثنائية سنّية حقيقية بين ميقاتي والحريري، قد تتحول إلى ثلاثية أو رباعية من خلال الشراكة مع النائب محمد الصفدي وآل كرامي، فضلاً عن محاولة الكثير من القيادات السنية كسر الطوق الذي كان مفروضاً عليها، وهذه المرة بناءً على «أمر سعودي» على قاعدة أولوية «ترتيب البيت السنّي في لبنان».
ويمكن القول إن لطرابلس في المعركة البلدية خصوصية تختلف عن سائر مناطق الشمال، حيث استعان الحريري بميقاتي والصفدي وأحمد كرامي وفيصل كرامي ومحمد كبارة لخوض معركة تصفية حساب مع الوزير أشرف ريفي، خصوصاً بعدما سمع من جهات سعودية مسؤولة أن لا غطاء سياسيا سعوديا لريفي ولا تغطية مالية له (بما في ذلك من الإمارات).
ومثلما نجح الحريري في منع دخول ريفي الى عشاء السفارة السعودية الأخير، فإنه يريد أن يجعل من المعركة السياسية مع وزير العدل المستقيل عبرة لكل من يريد تكرار «النموذج الريفي» في الشمال، أو في أي منطقة لبنانية، خصوصا أن أشرف ريفي يخوض معركة إثبات وجود بوجه الحريري قبل أي تيار سياسي آخر في مدينته، وهو أبلغ ذلك (من تحت الطاولة) الى حلفاء الحريري.. معتبراً أنه شريك في صنع زعامة آل الحريري في الشمال، وليسوا هم من يحددون حيثيته في الشارع الطرابلسي، وهذا المناخ أدى الى خلق مناخ معركة انتخابية حقيقية في عاصمة الشمال.
ولعل الهاجس الوحيد لدى التحالف السياسي الطرابلسي هو التشطيب، ليس خوفاً على الأعضاء السنّة الـ19، في لائحة طرابلس التوافقية، بل خوفاً على المرشحين المسيحيين الثلاثة والمرشحين العلويين الذين سيؤدي غياب أي منهم إلى ضرب التنوع الذي تتميز به عاصمة الشمال من جهة، وتوفير الفرصة لإحدى اللائحتين المنافستين لإحداث خرق جزئي من جهة ثانية.
وتعتبر هذه الانتخابات أيضا محطة اختبار لـ «مشهدية معراب» التي جمعت بين «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية» اللذين يحاولان فرض نفوذهما في معظم المناطق المسيحية، وفي مقدمتها القبيات التي تشهد «أم المعارك» بين الحليفين الجديدين وبين تحالف النائب هادي حبيش والوزير الأسبق مخايل الضاهر، وكذلك في تنورين ضد ابن البلدة الوزير بطرس حرب، وفي كثير من البلدات والقرى المسيحية، لا سيما في الكورة وزغرتا.
ويعني ذلك أيضا أن «تحالف معراب» جاء لـ «يرد الإجر» الى زعيم «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية في ملعبه وبين جمهوره، والذي سيكون أمامه تحد كبير في بعض البلدات التي يخوض فيها معارك ضد «التحالف» ليؤكد من خلالها، أنها تبقى لأهلها ووفية لزعمائها، وأن للشمال خصوصيته المسيحية، وأن فرنجية المرشح الرئاسي يبقى الأقوى والأكثر تأثيراً شمالاً، بعدما جرّب حظه في المحطات الانتخابية على غير أرضه (زحلة وجونية تحديدا)، ولم يُكتب له الفوز!