في معظم اللقاءات الدولية والإقليمية، ينبري من يؤكد على أهمية أن ينتخب اللبنانيون رئيسهم بأسرع وقت صونا لاستقرارهم ومؤسساتهم الدستورية. وليس غريبا أن يشدد الرئيس سعد الحريري على ذلك، حينا مع القيصر الروسي فلاديمير بوتين، وحينا آخر مع السلطان رجب طيب أردوغان. ولن يكون غريبا أن يبادر كل من الرئيسين نبيه بري وتمام سلام في كل مناسبة محلية أو خارجية الى طرح الأمر.. لعل هناك من يرد التحية بأحسن منها.. رئاسيا، لكن من دون جدوى.
وقد يكون مفهوما أن يتبنى البعض محليا، ولو بخفر، قضية الرئاسة الانتقالية لسنتين، لكن المستغرب أن لا يجد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، برغم كل ما تواجه سلطته من تحديات، موضوعا أهم من الموضوع اللبناني، لاثارته في محادثاته الأخيرة في موسكو مع نظيره الروسي، حيث انبرى للدعوة الى تبني مرشح توافقي ثالث بديل لكل من العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية.
وليس خافيا على أحد من يقصد «أبو مازن»، حتى أنه فاتح بالأمر نفسه القيادة السورية، ولكنه لم يجد آذانا صاغية!
تصوروا أن قضية الرئاسة في لبنان باتت تتعدى عند «السلطة» مشهد الدم اليومي النازف وقضايا بناء المستوطنات واللاجئين والمعتقلين ورواتب الموظفين، وحتى المؤتمر الدولي للسلام الذي كان مقررا عقده في الثلاثين من أيار في العاصمة الفرنسية، قبل أن يرفضه الاسرائيليون، وبالتالي، يصبح موعده معلقا الى ما بعد تبلور المشهد الرئاسي الأميركي، الا اذا كانت «ارباحه» الداخلية الانتخابية الفرنسية كبيرة، وعندها يصبح مطلوبا لأسباب فرنسية وليست فلسطينية أو اسرائيلية!
حاول الفلسطينيون جس نبض الدول الكبرى قبل أن يحاولوا من خلال مصر، التي تحتل مقعد عضوية غير دائمة في مجلس الأمن، تقديم مشروع الى مجلس الامن الدولي لادانة الاستيطان الاسرائيلي الفالت من عقاله. كان الجواب أن من شأن خيار كهذا أن يطيح المؤتمر الفرنسي للسلام وهذا أمر ليس من مصلحة الفلسطينيين، ناهيك عن الألغام التي يمكن أن تفجر اجتماع «الرباعية الدولية» وما سيصدر عنه قبل نهاية أيار المقبل.
واذا كانت حسابات الرئيس الفرنسي أن الاعتراف بدولة فلسطينية قد يزيد من شعبيته فرنسيا، فان حسابات الرئيس الأميركي باراك أوباما، لا تتصل به وحده، بل بمسار الانتخابات الأميركية، ولذلك، لن يقدم على أية خطوة استفزازية لاسرائيل في أي ملف اقليمي، قبل تبلور الصورة النهائية لسيد البيت الأبيض للسنوات الأربع المقبلة.
ومن يراقب مشهد الدم الفلسطيني المسال يوميا، لن يكون غريبا عليه الاستنتاج أننا ذاهبون في الأسابيع المقبلة، نحو جولات وجبهات جديدة من البطش الاسرائيلي ضد الفلسطينيين العزل.
بن سلمان.. ومنظومة المتضررين
ولعل النقطة الأخطر في ما أقدم عليه بنيامين نتنياهو بجمع حكومته في هضبة الجولان المحتلة، واعلانه أن هذه الأرض السورية المحتلة هي جزء لا يتجزأ من دولة اسرائيل، تتمثل في تناغمه، في خطوته هذه تحديدا، مع دول خليجية ومع تركيا التي تصر على نزع الشرعية عن الرئيس بشار الأسد، حتى لو كان الثمن تقسيم سوريا أو توزيع أراضيها، فيكون لنتنياهو حصة في الجولان، ولرجب طيب أردوغان حصة في الشمال السوري، ناهيك عن الحصة التي يمني أبو بكر البغدادي نفسه بها الى الأبد في الشرق السوري!
هذه هي سوريا التي يريد لها بعض العرب أن تكون نسخة جديدة عن فلسطين، من دون تجاوز جروح العرب المفتوحة في العراق واليمن وليبيا، ناهيك عن مصر التي تجيز رهن كرامتها وسيادتها لقاء حفنة من الدولارات.
هذه دول عربية تعود عقودا من الزمن الى الوراء، وفي المقابل، ينبري حاكم السعودية محمد بن سلمان، محاولا جعل مملكته تسابق الزمن، الى عقود وعهود جديدة. يستفز منظومات الحماية كلها وبعضها في أصل النشأة. يستفز المؤسسة الوهابية والحد من نفوذها التاريخي التعاقدي مع آل سعود. هذه المؤسسة الدينية المتشددة بكل ما أفرزته من ظواهر قديمة وحديثة، تتعرض لصدمة غير مسبوقة. يسري الأمر نفسه على المنظومة العائلية التي أحيل مئات الأمراء فيها الى التقاعد القسري.. على طريق انعقاد النصاب لوصول محمد بن سلمان وحده الى العرش، مستفيدا من صورة «البطل» أو «الشخصية الوطنية» التي يجسدها عند أبناء جيله. الركن الثالث الذي يهتز هو النفط ومعه منظومة الحماية الاجتماعية التي وفرها آل سعود لشعب تعيش نسبة كبيرة منه عند خط الفقر، وهو شعب ارتضى نظامه بكل عوراته، في ضوء التعاقد أو التفاهم غير المعلن بين الولاء الأعمى من جهة وبين الحماية الاجتماعية من جهة ثانية.
أما الركن الرابع، فهو الحماية التي كانت توفرها الولايات المتحدة للعرش. هذه الحماية لم تعد مضمونة مع باراك أوباما.. وبعده على الأرجح.
بمن سيستعين محمد بن سلمان لمنع تشكيل جبهة من كل هؤلاء «المتضررين» (المؤسسة الوهابية والأسرة ومنظومة النفط والحماية الاجتماعية والولايات المتحدة الأميركية)؟
لعل الشق الأخطر في هذا الجواب هو ما يتكشف يوما بعد يوم في الاعلام الاسرائيلي والغربي (تحديدا البريطاني) عن ارتفاع منسوب التنسيق الاسرائيلي ـ السعودي، سياسيا وعسكريا وأمنيا واستخباريا، وهو مسار متصاعد الى العلن منذ حرب تموز 2006 (اجتماعات أمنية واستخبارية ورحلات جوية وعلاقات تجارية ومصافحات واشادات ومقابلات لأمراء سعوديين مع صحف اسرائيلية)، برغم وجود سياقات سرية له قبل هذا التاريخ بعقود من الزمن.
ايران العدو.. وليست اسرائيل
الى أين يمضي السعوديون ومعهم دول الخليج؟
«الى مواجهة الخطر الايراني». عبارة يرددها قادة خليجيون ولا تقف المقاربة عند هذا الحد. يقول وزير خارجية البحرين خالد بن احمد آل خليفة ان ايران تهدد دول الخليج والاستقرار في الشرق الاوسط «أكثر من اسرائيل». أما الديبلوماسي السعودي السابق عبدالله الشمّار فيقول لـ «وول ستريت جورنال»: لو كنت أنا من يتخذ القرارات لما ترددت للحظة بالتعاون مع إسرائيل في كل ما يتعلق بالسياسة النووية الايرانية!
حتى المسألة السورية، يقاربها الأميركيون والخليجيون والأتراك من زوايا مختلفة لكنهم يتفقون على نقطة مركزية لعلها تفسر الكثير من تطورات الميدان السوري في الأسابيع الأخيرة.
أراد الروس معركة تدمر في عز حوارهم السياسي «الجنيفي» مع الأميركيين. سقطت المدينة بكل رمزيتها بأسرع مما توقعت الدوائر العسكرية والاستخبارية الأميركية. فجأة ارتسمت خطوط حمراء جديدة أمام الجيش السوري. ممنوع المضي في المعركة شرقا نحو الحدود العراقية. لماذا؟ الجواب واضح: ممنوع الربط البري بين طهران وبيروت عبر الحدود العراقية ـ السورية.
توقفت الاندفاعة الروسية ـ السورية ـ الايرانية وتقدمت معركة حلب بكل ما تحمله في طياتها من رسائل خصوصا لجهة دفن المشروع التركي في سوريا.
لا تشمل الهدنة الجديدة حلب ولن تشملها. حمام الدم هناك سيبقى مفتوحا.. والهدنة في باقي المناطق لن تصمد طويلا. اقتنع الروس مجددا بالأولويات السورية والايرانية التي أتقن قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني التعبير عنها خلال زيارته الأخيرة لموسكو في منتصف نيسان 2016.
أميركا الى الرقة وروسيا الى حلب. هذه هي المعادلة. ثمة مفاوضات جعلت عبارة روسية تصدر من خارج هذه المعادلة مع اعلان مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة أليكسي بورودافكين، أمس، أن الجيش السوري، وبدعم من القوات الجوية الروسية، «يخطط لشن عمليات هجومية باتجاه الرقة ودير الزور»!
تحتدم المعركة في سوريا وقريبا ستحتدم في الفلوجة و «القائم» في العراق. المخاوف تكبر عند الفلسطينيين. «حزب الله» لم ينتشر منذ ولادته حتى الآن، في رقعة جغرافية كتلك التي بلغها في الأيام الأخيرة، من دون أن يعدل حرفا في اجراءاته العسكرية على طول الحدود مع فلسطين المحتلة.
في المحصلة، «ننتظر صيفا حارا جدا في ميادين المنطقة كلها من العراق الى لبنان مرورا بسوريا» كما يردد مسؤول عربي كبير معني بهذه الخريطة كلها، أما ملف اليمن، وبرغم الخرق الايجابي في مفاوضات الكويت في الأيام الماضية، «فانه لن يكون خارج معادلة الأواني المستطرقة في المنطقة كلها».