سدد الإرهاب أمس لكمة موجعة للعالم الحر بهجمات استهدفت الأطلسيين والأوروبيين في عقر دارهم، العاصمة البلجيكية بروكسل. وساد الذعر شتى العواصم الأوروبية والمدن العالمية الكبرى ولا سيما في الولايات المتحدة، ورفعت حالات التأهب الأمني القصوى في كل من لندن وباريس وبرلين ونيويورك تحسباً لأي هجوم إرهابي مباغت. 

وبغض النظر عن الطابع «الجبان» لهذه الهجمات الإرهابية التي أودت بحياة ما لا يقل عن 34 مدنياً وأصابت أكثر من 200 آخرين بجروح، إلا أن الأسئلة الأساسية التي تفرض نفسها أكثر من أي وقت مضى هي: كيف يحصل الإرهابيون بسهولة على الأسلحة والمتفجرات؟ وكيف يتمكنون من خرق منظومات أمنية معقدة كالمنظومة الأمنية لمطار حيوي مثل مطار بروكسل في قلب أوروبا؟.

رسالة الإرهابيين التي وصلت الى مقار الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في العاصمة البلجيكية موقعة عشرات القتلى وأكثر من 200 جريح من خلال هذه التفجيرات، جاءت واضحة ومفادها أن «لا أحد آمناً، بغض النظر عن هويته ومركزه وفي أي بلد يعيش». 

وبإعلان «داعش» مسؤوليته عن هذه الهجمات، يكون التنظيم الإرهابي نقل فعلياً الحرب الى قلب الاتحاد الأوروبي انتقاماً (بحسب البيان الذي أصدره) من الائتلاف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد مواقعه في العراق وسوريا. 

وفي تفاصيل يوم أسود صبغه الإرهاب بلونه، أن فريقين من القتلة توجها الى كل من مطار «زافنتم» ومحطة «مالبك» لمترو الأنفاق في بروكسل. وفي الساعة الثامنة صباحاً بتوقيت بروكسل قام إرهابيان بتفجير نفسيهما بحزامين ناسفين وسط المطار، فيما ترك إرهابي ثالث حقيبة مفخخة وفر من المكان. الحصيلة الأولية لضحايا المطار أكثر من 14 قتيلاً و96 جريحاً. وبعد ذلك بنحو ساعة أدت عبوة ناسفة زرعت في قطار أو تركت في حقيبة داخله، الى انفجار كبير عند محطة «مالبك» التي تبعد دقائق قليلة عن مقرات الاتحاد الأوروبي، وأدى الانفجار الى مصرع أكثر من 20 شخصاً وإصابة أكثر من 100 آخرين بجروح. ودفعت هذه الهجمات السلطات البلجيكية الى إقفال جميع مرافق العاصمة وأوصت المواطنين الموجودين في منازلهم بعدم مغادرتها، فيما ضربت أطواق أمنية مشددة داخل وخارج العاصمة، ولم تعد القطارات الى الحركة إلا بعد الساعة الخامسة مساء وذلك بهدف إتاحة الفرصة للعامة الموجودين خارج منازلهم للعودة اليها.

ونشرت وسائل إعلام محلية صورة التقطتها كاميرات المطار لثلاثة مشتبه في أنهم منفذو العملية وهم يجرون عربات حقائبهم كأي مسافر عادي، اثنان منهم يرتديان ثياباً سوداء ويرتديان في اليد اليسرى قفازين أسودين رجح خبراء الإرهاب ان هذين القفازين يخفيان جهازي تفجير الحزامين الناسفين. أما الثالث فيرتدي سترة بيضاء وقبعة داكنة اللون ويرتدي نظارة طبية وله ملامح آسيوية كما يبدو من الصورة، وهو المشتبه الذي يرجح فراره بعد تركه حقيبة مليئة بالمتفجرات في المكان. 

وقامت الشرطة بعمليات دهم واسعة لمعاقل عدد من المشتبه بصلتهم في الإرهاب في العاصمة وضواحيها وألقت القبص على مشتبه به في إحدى شقق شايربك (شمال بروكسل) بعد العثور في شقته على أعلام «داعش« وعدد من الذخائر والأسلحة ومواد كيميائية. ولم يُعرف ما إذا كان المقبوض عليه هو نفسه الإرهابي الثالث الذي فر من المطار. 

ورفضت السلطات البلجيكية ربط أحداث الأمس مباشرة بعملية إلقاء القبض قبل أيام على صلاح عبد السلام الإرهابي الفار من عملية باريس، إلا أن رئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشال اعترف أن «ما كنا نخشى وقوعه قد حصل»، وأشار الى أن السلطات كانت تتوقع أن تشديد القبضة على خلية إرهابية قد يدفع خلية أخرى الى التحرك.

وفي تفاصيل الهجوم الإرهابي على العاصمة البلجيكية، ذكرت «فرانس برس» أن مغربية قتلت في الاعتداءات التي استهدفت العاصمة الأوروبية، في حين أصيب أربعة مغاربة آخرين بجروح اثنان منهم في حالة خطرة حسب حصيلة مؤقتة أوردتها وكالة الأنباء المغربية الرسمية نقلاً عن مصدر ديبلوماسي مغربي في بروكسل.

وأوضح المصدر أن المغربية توفيت في الانفجار الذي وقع في مترو الأنفاق، في حين أصيب المغاربة الأربعة الآخرون بجروح في الانفجارين اللذين هزا مطار بروكسل.

وقتل 34 شخصاً على الأقل وأصيب أكثر من 200 آخرين الثلاثاء في اعتداءات بروكسل.

وأضاف المصدر الديبلوماسي أن الأبحاث ما زالت جارية للتأكد مما إذا كان هناك ضحايا مغاربة آخرون.

وبحسب المصدر نفسه فقد أنشأت السفارة والقنصلية العامة للمملكة المغربية في بروكسل خلية أزمة لتتبع الوضع عن قرب ومعرفة مدى وجود أفراد من الجالية المغربية من بين ضحايا هذه الاعتداءات.

ويبلغ عدد أفراد الجالية المغربية في بلجيكا، حسب الأرقام الأخيرة لوزارة الهجرة المغربية، 429850 وهو ما يعادل 3,9% من سكان بلجيكا، وهناك وجود كثيف للمغاربة في العاصمة بروكسل.

وسبق لمسؤولين أمنيين مغاربة أن أعلنوا أنهم سلموا بروكسل معلومات لتتبع انتحاريي حي مولنبيك بروكسل عقب اعتداءات باريس في تشرين الثاني 2015.

وشددت الإجراءات الأمنية في مطارات لندن-غاتويك وباريس-شارل ديغول وجنيف وفرانكفورت وكوبنهاغن.

وفي فرنسا دعا وزير الداخلية برنار كازنوف الى تعزيز مكافحة الإرهاب على المستوى الأوروبي بعد «الاعتداءات الخطيرة» في بروكسل مشيراً الى نشر 1600 عنصر إضافي من الشرطة والدرك في البلاد.

كما تم تشديد الإجراءات الأمنية قرب المؤسسات الأوروبية في ستراسبورغ (شرق) حيث مقر البرلمان الأوروبي. وفي بريطانيا عززت الشرطة وجودها «في النقاط الحساسة».

وأعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند أن «أوروبا كلها مستهدفة من خلال اعتداءات بروكسل».

وبعث العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز برقية عزاء ومواساة للملك البلجيكي فيليب في ضحايا التفجيرات الإرهابية التي شهدتها بروكسل، وجاء في البرقية: «بلغنا وبأسف شديد نبأ وقوع عدة تفجيرات إرهابية في مدينة بروكسل، وما نتج عنها من ضحايا وإصابات». ودعا الملك السعودي إلى «تكاتف الجهود الدولية لمحاربة هذه الآفة الخطيرة».

وندد الرئيس الأميركي باراك أوباما بالاعتداءات «المشينة». وصرح أوباما من العاصمة الكوبية هافانا «يجب أن نقف معاً بغض النظر عن جنسيتنا أو عرقنا أو ديننا لمكافحة آفة الإرهاب. ونستطيع إلحاق الهزيمة بمن يهددون سلامة وأمن الناس في جميع أنحاء العالم وسنهزمهم».

وفي الولايات المتحدة أخلت الشرطة «قسماً من المحطة الرئيسية» لمطار دنفر الدولي (غرب) بهدف «التحقيق في تهديد محتمل للأمن»، بحسب ما أعلنت سلطة المطار في تغريدة. ومن دون تقديم توضيح بشأن طبيعة هذا التهديد، أضاف المطار أن «الرحلات متواصلة». وتشهد المطارات الأميركية يقظة عالية على خلفية اعتداءات بروكسل.

وعززت كبرى المدن الأميركية إجراءاتها الأمنية عقب الاعتداءات الدامية التي هزت العاصمة البلجيكية فيما تم تسيير دوريات للشرطة المسلحة بالرشاشات في ساحة تايمز في مدينة نيويورك. 

وانتشرت قوات شرطة مكافحة الإرهاب بأعداد كبيرة بينما أمرت السلطات بتعزيز الإجراءات الأمنية مع توجه ملايين الأميركيين الى عملهم صباحاً، رغم تأكيد السلطات عدم وجود تهديد حقيقي على الأراضي الأميركية. 

وفي نيويورك أرسلت تعزيزات من الحرس الوطني الى المطارات الدولية في المدينة، وجرت مضاعفة دوريات الشرطة خلال ساعات الازدحام، وتم تعزيز عناصر الأمن في محطات القطارات والحافلات، بحسب مسؤولين. 

وقال بيل دي بلاسيو رئيس بلدية نيويورك «لا يوجد تهديد معين أو قوي (...) ولكننا على درجة عالية من التأهب والاستعداد». 

وفي واشنطن قالت شركة قطارات النقل إنها طلبت مزيداً من الدوريات كإجراء «احتياطي» رغم عدم وجود تهديد معين أو معروف أو قوي. كما شوهدت عناصر الشرطة المسلحة بأعداد كبيرة في مطار دالاس على مشارف واشنطن. وفي لوس انجلس تم تعزيز الأمن في المطار الذي يُعد ثالث أكثر مطارات البلاد نشاطاً، بحسب متحدث.

وسواد يوم الأمس حاولت بعض دول العالم تبديده من خلال إنارة رموزها بألوان العلم البلجيكي الحمراء والصفراء والسوداء تضامناً مع بلجيكا. وأعرب الملك البلجيكي فيليب عن شديد حزنه معلناً أن «يوم الـ22 من شهر آذار لن يبق كما كان من الآن فصاعداً« في إشارة الى تخصيص ذكري سنوية مستقبلاً لضحايا هذه المأساة. ولعل أصدق ما عبر عن الوجع الذي أحس به الأوروبيون من فاجعة الأمس، دموع الممثلة العليا لخارجية الاتحاد الأوروبي فدريكا موغيرني فور سماعها الأنباء الصادمة. 

والمصطادون في الماء العكر سياسياً لم يتأخروا لحظة ليستغلوا المشاهد الدموية في بروكسل ليخرجوا مطالبين بضرورة فك ارتباط بلدانهم بالاتحاد ومغادرته. تلك كانت حال قادة الأحزاب القومية المتطرفة في بريطانيا وفرنسا وغيرها من البلدان. وتوقيت التفجيرات يأتي في وقت حساس جداً بالنسبة للأسرة الأوروبية الموحدة إذ إنه يأتي وسط مخاوف جدية من قرب انفصال اليونان عن العملة الأوروبية الموحدة «اليورو» وقبل أقل من 3 أشهر على استفتاء شعبي سيجري في بريطانيا حول بقائها في الاتحاد أم خروجها منه. وما يزيد في عمق مستنقع الأوحال الذي يغرق فيه الاتحاد الأوروبي أكثر فأكثر أزمة اللاجئين التي أظهرت انقسامات حادة في مبادئ ومواقف حكومات الدول الـ28 التي تشكل الاتحاد، فالدول الرافضة تماماً لاستقبال أي لاجئ على أراضيها ستجد في التفجيرات الأخيرة ذريعة قوية للثبات على مواقفها السلبية من الأزمة وإنكار واجب تقاسم عبئها أوروبياً.

وبالابتعاد عن الأحداث الميدانية والنظر الى الصورة الكبيرة لما يجري، فإن الأسئلة التي تفرض نفسها كثيرة وأبرزها: من المستفيد الأول من زلزلة الاتحاد الأوروبي والعمل على تفتيته؟ ومن يزود هؤلاء الإرهابيين بالأسلحة والتقنيات الحديثة ويسهل حصولهم عليها؟ الأجوبة ربما يعرفها جيداً الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والمستشارة الالمانية انغيلا ميركل وأمين عام الناتو ينس ستولتنبرغ، ولكنهم حتماً ليسوا قادرين على إعلانها. لكن داليا غريبوسكيت رئيسة دولة أوروبية صغيرة كليتوانيا لم تتردد لحظة في تسمية الأمور بأسمائها وكانت لديها الجرأة الكافية لتعلن قبل أيام أن «روسيا أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم». فهل صدقت داليا؟ وهل نحن نعيش حالياً حرباً عالمية ثالثة وإن كانت الجبهات فيها تُفتح بطريقة غير مباشرة وبأساليب مختلفة إرهابية وغير إرهابية؟