انفعال الطبقة السياسية على خلفية الملف الرئاسي ليس موارباً ولا يخفي جديداً. واضح أن هذه الطبقة لا تهتم إلا بما ستجنيه، مباشرة، من أي صفقة. توتر التيار الوطني الحر مفهوم لمحاولة التضحية بزعيمه، مرة جديدة، بحجة «الظرف الاستثنائي». كذلك يمكن تفهم غضب النائب سليمان فرنجية من محاولة تصويره «حصان طروادة» إن هو قبل التسوية.

ومبرّر ارتباك سمير جعجع الذي لم يكن يتصور أنه سيصل إلى لحظة إلزامه الاختيار بين خصمين، كما هي الحال بالنسبة إلى بقايا 14 آذار، الذين يُلدغون من الجحر نفسه ألف مرة ولا يتعلّمون. لكن الصورة تصبح أكثر فوضوية لدى رؤية بقية القوى في حالة انتظار. قوى قدرية تنتظر ما سيأتي به رسول من خارج الحدود. تنتظر قنصلاً يفتح ورقة ليذيع اسم الرابح. ومن هم خارج الحدود يتعجبون إن خرج من بين اللبنانيين من يطرح السؤال: ما الذي يجبرنا على السير في هذه الصفقة؟
الاحتيال الذي يطبع هذا المشروع لا يتعلق، فقط، بكون أركان التسوية الأميركية ــــ السورية ــــ السعودية يريدون تثبيت مقاعدهم، ويخوضون المعركة كأنها معركة البقاء. بل يمكن اختصاره بحالة الرئيس سعد الحريري، الأكثر ضعفاً هذه الأيام. يستعجل الحريري الصفقة، غير آبه لاعتراضات أهل البيت والجيران وأبناء الحي الآخر. وهو، ربما للمرة الأولى، يخوض معركة المستقبل، لا تياره، بل مستقبله الشخصي والسياسي والاقتصادي. يبدو الرجل، اليوم، الأكثر استنفاراً، وهو يحاول إقناع كل من حوله بهذا الخيار، لتجميع رصيد يمكّنه من التفاوض مع حزب الله بحثاً عن الاتفاق الشامل. وإذا كان وليد جنبلاط أكثر إجادة منه في سرد الأسباب الموجبة، فالحريري أكثر واقعية، وأسرع منه في ملاحقة التطبيقات.

أصل الحكاية

قبل أكثر من شهرين، وتحديداً قبل إعلان روسيا تدخلها العسكري في سوريا، تولّى جنبلاط تقديم المشورة السياسية. قال لمن يهمه الأمر: «فريقنا ليس في وضع جيد، لا في سوريا ولا في اليمن والعراق ولبنان، ويبدو أن التطورات قد تصبّ في مصلحة الخصوم. وإذا ربطنا مصير التسوية المحلية بما يجري من حولنا، فإن ما يمكن أن نحصل عليه اليوم، قد يصبح حلماً بعيد المنال لاحقاً. لذلك، يجب الإسراع باقتراح حل».
كعادته، لم يتأخر جنبلاط في إثارة الأمر من حوله، إلى أن أنجز مروحة من الاتصالات شملت، في المرحلة الأولى، سفراء الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية. وتولى أصدقاء له، من مستشاري الحريري، تبادل الأفكار بين بيروت والرياض وباريس، إلى أن حُدّد له موعد لزيارة السعودية. هناك، عندما قابل الملك النائم سلمان، والملك المتيقظ محمد بن سلمان، ثم رئيس المخابرات خالد الحميدان، هناك طرح الأمر بصورة أكثر وضوحاً، وبما يتناسب مع الأذن السعودية. كان التدخل الروسي في سوريا قد بدأ، ما أتاح لجنبلاط التحدث براحة أكبر. قال إن التدخل سيمنع سقوط بشار الأسد، وأكثر من ذلك، سيحرّر حزب الله من ضغوط كثيرة نتيجة تدخله العسكري في سوريا.


الأسد نصح فرنجية بالاستماع إلى نصر الله والأخير أكد دعم عون

 

وإذا سارت الأمور نحو انتصارات للفريق الآخر، فسوف يكون لبنان أمام واقع جديد. وفي دغدغة لمستمعه السعودي، اعتبر «أننا أمام فرصة تنظيم تسوية وفق اتفاق الطائف الذي يحمي مصالحنا ومصالحكم. أما إذا تأخرنا، فإن الشيعة، ومعهم المسيحيون، سيعملون على إدخال تعديلات تمنحهم المواقع الأكثر نفوذاً. لذلك، علينا المبادرة إلى اقتراح تسوية على أساس الوقائع القائمة اليوم، بما فيها من توازنات. وهذا يتطلب التنازل للطرف الآخر في نقطة حساسة، وأن نعرض عليه عرضاً لا يمكنه رفضه».
كان جنبلاط، إلى ما قبل زيارته للسعودية، يفكّر في عون رئيساً للجمهورية. لكنه لاحظ ـــــ إلى جانب أنه شخصياً لا يرى فيه إلا كميل شمعون آخر ــــ أن عون يمثل، بالنسبة إلى السعودية، ظلّ إيران في لبنان، لأن تحالفه مع حزب الله لا ينافسه عليه أحد. هنا، لمعت فكرة ترشيح فرنجية، «وإن قال أحد إنه صديق بشار الأسد، فالجواب جاهز: وإن يكن. هل الأسد قادر على فك حرف في لبنان الآن؟».
السعوديون الذين كانوا قد تلقّوا إشارات فرنسية وأميركية وبريطانية حول الفكرة، لم يُبدوا ممانعة. لكنهم رفضوا إطلاق العنان لماكينة عمل سريعة. طلبوا من الحريري الراغب في العودة إلى الحكم بأي ثمن التفاعل مع جنبلاط، فيما عمدت الرياض إلى التشاور في الأمر مع الأميركيين، ثم مع الفرنسيين. وأبلغت الأخيرين: سيزوركم الرئيس الإيراني حسن روحاني قريباً. قدّموا له المفاجأة الكبرى بالموافقة على انتخاب الحليف فرنجية رئيساً للجمهورية. عندها، ستفرض إيران القرار على حزب الله لتسير الأمور. على أن يُعقد، في غضون ذلك، لقاء بين فرنجية والحريري الذي اطلع على نتائج زيارات دبلوماسيين غربيين لبنشعي، وعلى محصلة الأجوبة عن أسئلة حملوها إليه.

لقاء باريس

ربما لم تكن فرنسا مقتنعة بقدرة الرئيس الإيراني على إنهاء «الصفقة» بمكالمة هاتفية مع حارة حريك. لكنها وجدت في العرض ما قد يعيدها لاعباً قوياً في لبنان. ألغت مقتلة «داعش» الباريسية زيارة روحاني، لكن برنامج اللقاء بين الحريري وفرنجية ظل مقرراً. عولجت بعض الشكليات في اللحظات الأخيرة، والتقى الرجلان. بادر الحريري فرنجية بالقول: «نحن موافقون على انتخابك رئيساً للجمهورية. يجب أن نتحدث في بعض الأمور، وسنتفاهم على آلية إقناع الجميع في بيروت. ولنتفق: فريق 14 آذار من مسؤوليتنا، وعليك إقناع فريق 8 آذار».
قبل اللقاء، كان فرنجية قد تأخر حتى اطلع على كامل المشاورات. وللأمانة، يجب القول إنه لم يبادر إلى تسويق نفسه لدى أحد، لا جنبلاط ولا الحريري ولا الأطراف الإقليمية والدولية. لكن الأخبار التي تواترت إليه، واستقبالاته السياسية والدبلوماسية، كوّنت لديه صورة عن وجود مقترح من جنبلاط والحريري، بمباركة أميركية ــــ فرنسية ــــ سعودية، لانتخابه رئيساً. وكعادته، بادر إلى الاتصال بصديقه الرئيس الأسد، وزاره لتمضية يوم عائلي استمر ساعات طويلة، ووضعه في صورة الاتصالات مستمزجاً رأيه. لم يكن الأسد متحفظاً، لكنه قال لفرنجية: «تعرف أنني في لبنان أثق بما يقوله السيد حسن. اذهب إليه وشاوره، وما تتفاهمان عليه أسير به».
بعد أيام، قصد فرنجية السيد نصر الله وأثار معه الملف بكامله. كان نصر الله في أجواء غالبية المعلومات، لكنه استمع من فرنجية إلى ما يساعده على نصحه، وهو ما فعله. قال له: «تمهل ولا تستعجل، واسمع ما يقوله الطرف الآخر، ولا تدخل في التزامات. لدينا كل الوقت، ووضعنا من حسن إلى أحسن في المنطقة. وانتبه، فربما يكون هناك من ينصب لنا فخاً ليفكّك جبهتنا. وأنت تعرف أننا متفقون على العماد عون مرشحاً لفريقنا».
لم يخرج فرنجية من اجتماعيه مع الأسد ونصر الله بانطباع سلبي. لكنه لم يحصل على تفويض أو مباركة. وعندما ذهب إلى باريس، كان يريد التأكد من جدية الطرف الآخر. وحتى عندما عاد إلى بيروت، سمع من الرئيس نبيه بري العبارة الأوضح: «لماذا لا يرشحك الحريري وجنبلاط علناً؟ فهذا يسهّل الأمر على الحلفاء»!.
كان جنبلاط قد سمع الكلام نفسه من بري، وكذلك الحريري، وفكر الاثنان بالخطوة المناسبة. لكن التأخير مرده إلى سعي الحريري وجنبلاط إلى انتزاع موقف واضح من حزب الله أولاً، ومن عون ثانياً. وهذا ما لم يحصل. وحتى مساء أمس، ظل جنبلاط يحاول مع حزب الله، لكنه سمع الجواب نفسه: «لا جديد لدينا. الأمر متروك للعماد عون. ونحن لن نضغط عليه، حتى لمصلحة فرنجية».
موقف حزب الله لا يمثل اعتراضاً على ترشيح فرنجية، وهو أمر يعرفه الأخير جيداً، ولا وقوفاً في وجه التسوية. نصح الحزب العماد عون بعدم الانجرار إلى أي سجال يقود إلى خلاف مع فرنجية. وظل، ومعه أصدقاء، يشدّدون على الرجلين بتفادي الصدام، لأنه الهدف الأول الذي يريده الطرف الآخر. وهاجس حزب الله، هنا، ليس فقط خسارة عون، بل عدم ثقته أصلاً بسير الطرف الآخر فعلاً في ترشيح فرنجية، وأن الانجرار وراء لعبة جنبلاط والحريري سيعني، أولاً، مشكلة بين عون وفرنجية، ولا يعني ثانياً انتخاب أحدهما رئيساً للجمهورية. وربما جاء، في هذا السياق، اقتراح اللواء جميل السيد بتوقف النقاش في فريق 8 آذار حول الأمر، في انتظار أن يحسم الفريق الآخر موقفه أولاً: ماذا تقول السعودية؟ وكيف يعلن الحريري موقفاً رسمياً؟ وكيف سيتصرف سمير جعجع؟
عند هذه النقطة توقف البحث، وصار الجميع يمارس هواية الانتظار، ودخلوا في دائرة مفرغة: السعودية تنتظر فرنسا، وفرنسا تنتظر إيران، والحريري ينتظر فرنجية، وفرنجية ينتظر الحزب، والحزب ينتظر عون، وعون ينتظر جعجع، وجعجع ينتظر السعودية!
مرة جديدة، تظهر الطبقة السياسية شراستها في الدفاع عما تعتبره مكاسب أزلية. وهي قد تلجأ إلى الجنون وتدمير كل شيء والانتحار. لكن هؤلاء ينسون أن في البلاد من هو قادر على قلب الطاولة في ثانية واحدة. وهو أمر ربما صار، للمرة الأولى، في إطار البحث!