في البدء، كلمة رثاء لوسائل الاعلام الخليجية البارزة التي لم تفقد في حملتها الاخيرة مع قطر، معاييرها المهنية فقط، لكنها أيضاً خسرت الكثير من سمعتها ورصيدها ، وكشفت انها لا تحظى بالاحترام الكافي من مراجعها، ولا تتمتع بالقدر المطلوب من هامش الاجتهاد، بل تنفذ تعليمات حرفية من دون الحد الادنى من المراجعة او المناقشة..وهي -لا تزال- حتى اللحظة تؤدي دوراً دعائياً وفق أنماط القرن التاسع عشر.
هو أمر محزن فعلا لكل إعلامي إهتم بالتجربة الخليجية وإعترف بتطورها وبكونها مصدراً للمعرفة عن ذلك المركز الطارىء الذي بات الخليج العربي  يشغله في عملية صناعة القرار العربي ، في غياب مصر والعراق، وفي إبتعاد المدى المغاربي. وهو مركز إهتزت مكانته في الايام القليلة الماضية، وتراجع دوره، بعدما إنكفأ الى عصبيات وغرائز سابقة، وإستعاد سلوكيات وخطابات نافية حتى لأبسط الشروط الاعلامية والمنجزات التكنولوجية.
والاغرب من ذلك أن بعض هذا الاعلام الخليجي ما زال يصر على الانحدار الى ما دون الحدود المقبولة للبروباغندا، وما زال يحتفي بإختراق إلكتروني مشين، يفترض ان يكون محرّماً، ومعيباً ، لجميع المتورطين فيه، لا سيما وأنه سلاح هو ذو حدين، في معركة لم تبدأ بعد، ولن تنتهي عند هذا الحد..لكن ضررها يمكن أن يلحق بالجميع.
كان يمكن لأي مبتدىء في المهنة ان يسأل نفسه: كيف للإعلام القطري ، وهو إعلام حيوي ومتقدم، بإعتراف خصومه ومؤيديه، ان ينتظر حتى ما بعد منتصف ليل الاربعاء الماضي، لكي يذيع كلمة لأمير البلاد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ألقيت في ساعات النهار الاولى؟ هل كان ذاك الاعلام ينتظر أن يخلد الخليجيون الى النوم، لكي يبث خطاباً على هذا القدر من الاهمية والخطورة! لعل ثمة من تفادى ، أو خشي ان ينفذ عملية القرصنة على وكالة الانباء القطرية في وضح النهار.
أما الكلمة المزعومة ، التي لم تلق في الاساس، فإن نصها الزائف أحدث كما يبدو مفعولا معاكساً لما أراده القراصنة، لا سيما بعدما تجاوب معها الجمهور الخليجي ومغرديه النشطين :وضع القراصنة على لسان أمير قطر وبإسمه مواقف صدّقها ذلك الجمهور بسرعة وتفاعل معها.. لأنه يتوقع أو يظن أنها لا تبعد  كثيراً عن مواقفه الحقيقية، سواء من إيران او المقاومة او الاخوان المسلمين او إسرائيل او أميركا، لكنه يحتفظ بها لنفسه أو للجلسات المغلقة في القمم الخليجية خاصة .
 لم يلقِ الامير ذلك الخطاب المزور، بالتحديد، لكنه قال العام الماضي مثلا وعلى منبر الجمعية العامة للامم المتحدة كلاما يشبهه، عن إيران الجار الصعب الذي يجب ألا يمل الخليجيون خاصة، من دعوته الى الالتزام بحسن الجوار، والى فتح قنوات الحوار لوقف الاستنزاف المتبادل الذي يضر بالخليجيين  أكثر مما يؤذي الايرانيين، بدلا من التهديد "العلني" بنقل المعركة "الى داخل إيران"، ومن التضخيم المفرط للخطر الايراني الى حدود خرافية، لا تسندها وقائع الداخل الايراني، ولا تدعمها حتى الاختراقات الايرانية في كل من اليمن والعراق وسوريا و لبنان.. وهي بالمناسبة إختراقات عسكرية وأمنية، لا سياسية، لمجتمعات عربية مفككة أصلاً وبحاجة الى عملية إعادة ترميم عربية خالصة.
لم يتحدث الامير عن الاخوان المسلمين ولا عن حماس ولا حزب الله، بالطريقة التي صاغها القراصنة، لكن الجمهور الخليجي، ومغرديه خاصة، يعرف ان هذه القوى ليست حليفة قطر لكنها أيضاً ليست على لائحة الارهاب القطرية، لانها لا تهدد ولا تعمل ضد الامن الداخلي الخليجي، وهو يلاحظ أيضاً ان الدوحة تردد على الدوام أن ثمة حاجة الى إحتواء تلك التشكيلات، وإستردادها من إيران بالذات، وإبقائها تحت العباءة (المراقبة ) العربية والخليجية تحديدا، بدلا من دفعها الى أحضان القاعدة وداعش ..
نعم ثمة مساحة للاجتهاد داخل الصف الخليجي، او هذا هو المفترض: الصراع مع إيران ليس أبدياً ولا ينبغي أن يكون. حرب اليمن ليست أزلية ولا يجوز ان تستمر على هذا النحو. النزاع السوري لا يمكن ان يدار بخلفية تاريخية بائدة وبإشتباك غير منطقي وغير عقلاني وغير مبرر مع تركيا بالذات. أما بالنسبة الى إسرائيل، فإن ثمة حاجة، بل ضرورة للتروي في إغوائها بالتطبيع الخليجي بينما هي  مقيمة في أشد حصونها عنصرية، تنكر أبسط الحقوق الفلسطينية، الحق في الحياة، وتتنكر لأدنى متطلبات السلام مع الفلسطينيين.
نعم ثمة مساحة للعقل الذي لا يبيح إتهام قطر بالسير نحو إسرائيل في الوقت الذي تقفل هذا المسار، بينما تفتحه دول خليجية أخرى على مصراعيه. ثمة مساحة للمنطق الذي لا يجيز الإيحاء ان الامارة الصغيرة التي تستضيف قاعدة عسكرية أميركية كبيرة هي في صراع او خلاف مع  أميركا، وهي تتحدى الاميركيين في كل ما تقوله وتفعله، وترتدي أمامهم الاقنعة المتعددة حسبما جاء في الكثير من الكتابات الاميركية المعادية لقطر، والمستندة الى بنات أفكار خصومها الخليجيين المبتدئين في السياسة.
 ثمة أزمة خليجية فعلية. لا تشبه أزمات سابقة بلغت حد سحب السفراء. لكنها تمس هذه المرة حدود التنوع والاختلاف في مجلس التعاون الخليجي، التي لا تخرقها قطر وحدها، ولا ينبذها جمهور واسع من الخليجيين.