يعيش الإعلام اللبناني واقعاً مزرياً؛ لما يشهده من أزمات مالية ومهنية، ففي الآونة الأخيرة شهد اللبنانيون عملية استغناء عن مئات المحررين والصحافيين والموظفين من أكثر من وسيلة إعلامية. كذلك، بدأ ميراث الصحافة اللبنانية الورقية في التراجع لصالح المواقع الإلكترونية التي أثبت تجربتها اليافعة، أنها لا تلتزم بالمعايير الأساسية للخبر؛ لأن الجهات المعنية بمراقبة الفضاء الإلكتروني ما زالت عاجزة عن ضبطه.
 

ومؤخراً بدأت شتى المواقع الإخبارية في لبنان معاناتها من متلازمة الحصول على أكبر عدد من القراء والمشاهدين، حتى لو كان ذلك عبر اعتماد معايير تتنافى مع أخلاقيات العمل الصحافي. وشكلت وسائل التواصل الاجتماعي جبهة منافسة لوسائل الإعلام الكلاسيكية، وقد نجحت المواقع الإخبارية في إشاعة قانون الـ«RATING»، بصفته وسيلة تعتمد على استقطاب أكبر عدد من القراء، من خلال استخدام أساليب ملتوية لجذب القراء، حتى لو كانت على حساب الحقيقة والمبادئ الإعلامية.

لقد شهدت الساحة الإعلامية في بيروت، أحداثا مهمة، عصفت بالرأي العام اللبناني، وأظهرت ولع المواقع الإخبارية بالحصول على عدد كبير من الزوار والقراء. ففي منتصف شهر أبريل (نيسان)، تناقلت المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي خبرا، مفاده أن 300 ألف مولود سوري سيولدون في لبنان.

انتشر الخبر بأسلوب هستيري، وجذب عشرات آلاف المتابعين، وتناقلته مواقع إخبارية مرموقة، وأدى الخبر إلى حصول مناوشات كلامية عدائية بين اللبنانيين والسوريين. ولكن ساعات قليلة على انتشار الخبر حتى تبين أنه لم يكن صحيحاً، وحُرّف عن مساره. وبحسب النسخة الحقيقية للخبر، فإن عام 2017 سيشهد ولادة 300 ألف مولود سوري جديد في البلدان كافة التي لجأ لها السوريون، إلا أن المواقع الإخبارية تجاهلت المبادئ السامية للعمل الصحافي، ولم تعتذر عن خطأها بنقل خبر كاذب، وقد يؤدي إلى إنتاج الكراهية والعنصرية بين السوريين واللبنانيين.

وأيضاً، في مارس (آذار) 2017، أقرت الحكومة اللبنانية سلسلة ضرائب جديدة، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي روجت للائحة مزورة للمواد التي ستطالها الضرائب، وقد استفادت الحكومة اللبنانية من الخطأ الذي وقعت فيه قوى المجتمع المدني بسبب تبنيهم لائحة الضرائب المزورة.

لذلك؛ تعد وسائل التواصل الاجتماعي من أبرز المنصات التي يمكن من خلالها تحريف الأخبار عبر الناشطين الذين لا يخضعون للرقابة، على الرغم من أن «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما تحدثوا مراراً عن ابتكارهم وسائل وقائية لمنع انتشار «الأخبار الكاذبة».

يقول الخبير في مواقع التواصل الاجتماعي، طارق أبو صالح، لـ«المجلة» إن «مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية في لبنان بدأت تعتمد على الأخبار المزورة والمصاغة بلغة ضعيفة؛ وذلك من أجل تحصيل أكبر عدد من القراء، فعندما ترتفع نسبة الزائرين للمواقع، يؤدي ذلك تلقائياً إلى استقطاب شركات الإعلان».

وبعد تراجع الدعم المالي من جهات ودول ممولة للمؤسسات الإعلامية اللبنانية، فإن المواقع الإخبارية اللبنانية، لا تجد وسيلة أفضل لتأمين الأموال سوى بصناعة الأخبار المشوهة والفاضحة؛ لأن ذلك سيجلب لها الدعم المادي من خلال الشركات الإعلانية التي تبحث عن منصات افتراضية تتميز بكثرة زوارها.

ويقول أبو صالح: إن «الأخبار الكاذبة تتحول إلى أخبار صحيحة، وتتفاعل نتائجها السيئة في الرأي العام. إن خبرا معينا عندما يمر أمامنا على المواقع الإخبارية ويتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل ضخم، حتى ولو كان خاطئاً فإن ذلك سيترك أثراً في عقل القارئ».

ويضيف: إن «القارئ اللبناني كأي قارئ في العالم، يتمتع بالفضولية، ومن المؤكد أن أي عنوان فاضح أكان جنسياً أو طائفياً أو عنصرياً سيجذبه أكثر للدخول إلى المقالة وقراءتها؛ لذلك فإن مقالاً مهماً أو بحثاً علمياً يحصل على نسب متدنية من القراء، بينما الإحصائيات الأخيرة عن المواد الإعلانية في العالم الافتراضي، أظهرت أن المواد الأكثر قراءة هي تلك التي لا تمتع بأي خاصية مهنية أو صحافية».

من جهة أخرى، لا تنحصر الآثار السلبية للنماذج الإخبارية الجديدة على نقل الأخبار بأساليب مشكوك فيها، وتحريفها، بل ظهرت آثار العالم الافتراضي على انحسار إقبال الصحافيين على إعداد تحقيقات صحافية، تطال قضايا ومشكلات اجتماعية واقتصادية يعاني منها المواطنون.

تقول الصحافية اللبنانية جويل بطرس لـ«المجلة» إن انخفاض نسبة القراء القادرين على قراءة نصوص طويلة يعد السبب الرئيسي لتراجع التحقيقات الصحافية؛ مما دفع الصحف الإلكترونية إلى إلزام الصحافيين بكتابة نصوص صغيرة تتمتع بالمكونات جذب القارئ إلى المادة.

في سياق متصل، تنتهج الوسائل الإعلامية سياسة نشر المعلومات عبر «الفيديو»، وأدى ذلك إلى ظهور منصات عدة تلبي طموح الناس بالحصول على المعلومة بشكل سريع من خلال توفيرها عبر فيديوهات لا تتعدى الدقيقة ونصف الدقيقة.

وتشير بطرس إلى أن الأبحاث العملية الحديثة المتصلة بالعالم الافتراض، تؤكد أن قدرة استيعاب المتابعين تقلصت، وأن قدرة الإنسان على التركيز لا تتعدى الـ7 ثوانٍ. يضاف إلى ذلك تراجع ملحوظ في نسبة القراءة؛ لذلك تتجه الصحف إلى نشر المعلومات عبر الفيديو، و«لا يمكن تجاهل عنصر السرعة، الذي فرض على عدد من العاملين في الصحف بأن يقوموا يومياً بإنجاز أكثر من مقال، وتغطية الأحداث السريعة، فلا يعود هنالك أي وقت كافٍ لإنجاز تحقيقات صحافية. فالتحقيقات في حاجة إلى متابعة وتفرغ وانقطاع عن العمل الروتيني اليومي للتركيز عليها».