كانت العطلة الصيفية، إيذانا باستئناف فلتاننا في براري الضيعة، أخوتي وأبناء عمي داوود وأنا. لم نحظ في طفولتنا بأندية أو ملاعب أو حدائق عامة لننشغل بنشاطات تربوية مفيدة.
كانت وديان الضيعة وتلالها وحقولها وصخورها، ملاعب طفولتنا ومصنع خيالاتنا ومسرح توقنا إلى التحليق صوب الآفاق الواسعة. نستغل انشغال أهلنا في شك الدخان لننسحب إلى البراري صوب غزوة صبيانية جديدة، ونعود مع غياب الشمس حيث تنتظرنا “القتلة”. لم يجبرنا أهلنا على مساعدتهم، لتجنيبنا طعم المرارة والتعب المجاني الذي يخلفه العمل في حقول التبغ. لكن أحاديثهم عن سطوة المحتكرين زرعت في نفوسنا نقمة، جعلتنا ثوارا من حيث لا ندري.
كانت قريتنا واحدة من قرى التبغ، اقتصاد أهلها يعتمد على زراعته، كانوا كلهم سواسية في الهم المعيشي، ما عدا عدد من العائلات البرجوازية، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، من بينها عائلة جميل باشا، التي كانت في جيرتنا.
كان جميل باشا من سكان رأس بيروت، وكان متزوجا من سيدة متعلمة من آل قليلات، كانا يقصدان الضيعة في الصيف، ويصطحبان معهما أحفادهما، الذين لا يختلطون بمجتمع الضيعة، يمضون أوقاتهم على شرفة بيتهم العريضة بقناطرها العالية ومصابيحها الشامية.
كنا نقضي ساعات بطولها على سطح بيت عمي داوود المواجه للشرفة، لا نفعل سوى مراقبتهم، كنا جمهورا وفيا لمسرح مفتوح أمام أعيننا المتشوقة إلى رؤية واستكشاف مشاهد جديدة مختلفة، من إشراقة الشمس حتى حلول الظلام.
في إحدى الصيفيات نجحنا في استدراج جميل حفيد الباشا إلى معسكرنا، ومن يوم قفز الحفيد عن السور الذي يفصل بيننا، أفرغنا حقدنا الطبقي كله فوق رأسه.
أقول حقدنا الطبقي، لأني لم أجد تفسيرا للأذى الذي ألحقناه بجميل وجدته البيروتية الطيبة، إلا بعد أن قرأت المفهوم الماركسي للطبقة الاجتماعية. كنا تلك البروليتاريا التي اكتسبت وعيا طبقيا بقدرتها على إلغاء الفروقات الاجتماعية وتحقيق المساواة بين الناس، بكل ما أوتيت من وسائل، حتى إذا كان العنف إحداها، وكان الحفيد يمثل البرجوازية الملوثة للتاريخ، التي تستغل تعب الكادحين وتتحكم بإنتاجهم، لذلك كان علينا تدميره دون رحمة. كنا نسخر من نعومة يديه وبياضهما، من صوته الخفيض وأدبه في مخاطبتنا ولهجته المدنية وثيابه وأحذيته النظيفة واحمرار وجهه حين نتلفظ ببعض العبارات البذيئة، ونجبره تحت التهديد والصراخ على التشبه بنا وتقليدنا. وكان ينفذ كل أوامرنا، حتى تلك التي تتعارض مع أسلوب تربيته. كنا في نظره عالما مدهشا من الحركة والحرية، أما نحن فقد كانت علاقتنا به أشبه بمحكمة مفتوحة، تحاسبه وتقتص منه على أفعال وأحوال لا دخل له ولا لنا بها. اصطحبناه يوما إلى “المغريقة” الأراضي الطينية البعيدة عن الضيعة، التي تخرج من جوفها المياه كالنوافير، وفيها صخرة طولانية مخرطة تشبه دودة القز، كنا نسميها صخرة الدودة. تقافزنا وتمرغنا بالطين، وأكلنا وسرقنا عنبا وتينا من الكروم، وبعد هجوم الليل، توزعنا خلف الصخور المنتشرة حول صخرة الدودة، تاركين الحفيد وحيدا وسط الظلام، وصرنا نعوي كالذئاب، ثم نصمت لنتلذذ بسماع بكائه واصطكاك عظامه من شدة الرعب.
لم يغير عنفنا اتجاه الحفيد من واقعنا الاجتماعي شيئا، هو ظل محافظا على امتيازاته ونحن مكثنا في عنفنا، وبينما تقاسمنا لاحقا عذاب صحوة الضمير، أظن أن الخشونة التي لقيها منا صقلت شخصيته ولملمتها.
لا أذكر كيف تحول مجتمع الضيعة فجأة من الفقر إلى الثراء، لكنه تغير إلى ما هو أسوأ مما يمثله حفيد الباشا. قضت الأموال المتدفقة من الاغتراب والأحزاب على رغبته في العمل والعلم والتحصيل. ولا أذكر كيف نفضت الضيعة آثار التبغ عن أكتافها، فقد تحولت بسرعة رهيبة، إلى بيئة برجوازية شكلية، تراكم الثروات على فراغ ثقافي وعلمي واجتماعي مهول.
المستنقعات الطينية في “المغريقة” تحولت إلى مسطحات باطونية، تنزلق عنها حبات المطر نحو شوارع الاسفلت، فتتحول إلى سيول تهرب نحو البحر، تاركة جوف الأرض جافا، عطشا. صخرة الدودة اختفت. مات جميل باشا، وانقطع أحفاده عن زيارة الضيعة.
الحفيد صار محاميا، ونحن تخرجنا من الجامعات ودخلنا ميادين العمل، وأنا التهمت كل النظريات التي تتحدث عن العنف الثوري، وكلما قرأت ما كتبه جان جوريه “نستيطع أن نكون في النضال الثوري وأن يتبقى لدينا شعور إنساني، فلسنا ملزمين بالبقاء في الاشتراكية والهروب من الإنسانية”، يتراءى لي وجه الحفيد البريء، يستغيث من خلف صخرة الدودة، فتنتابني رغبة في البكاء.