تحرير فلسطين في ظل الوقائع الدولية والإقليمية والعربية ليس فقط صعبا بل هو مستحيلا وخارج حدود المدارك العقلية ولا بد من التعامل مع القضايا العربية في إطار الواقع وليس في الإطار النظري المبني على الكثير من الأوها.
 

بين النظرية والواقع فرق كبير ومساحات شاسعة من الأوهام والأحلام والخيال، فالنظرية شعارات ويافطات وخطابات ورسم على الأوراق والجدران والجلوس في مكاتب فخمة والإقامة في القصور والفنادق خمس نجوم وصراخ وراء الميكروفون وكلام فوق السطوح وتصاريح نارية. 
أما الواقع فهو المرابطة في الخنادق والتمرغ بالتراب وراء المتاريس وأصوات القذائف والمدافع ولباس الميدان الملون بألوان الأرض والوطن وهو الحقيقة التي لا يمكن طمسها. 
النظرية هي التحليق في فضاء الجنون والعظمة والمكابرة والواقع هو الاستكانة للغة العقل والضمير والدين. 
نظريا كان على العرب إنجاز تحرير فلسطين منذ أكثر من نصف قرن من الزمن وكان الإسرائيليون اليوم يحييون سنويا ذكرى إلقاء أسلافهم في البحر تنفيذا لتهديد أحد قادة فلسطين مطلع ستينات القرن الماضي خلال خطاب ناري له في إحدى المناسبات القومية إلا أنه واقعيا لم يهتد إلى ذلك سبيلا ولم يجد بحرا يتسع للأسرائيليين ليلقي بهم فيه فرحل قبل تنفيذ وعده. 
نظريا لو ألقى كل مسلم دلوا من الماء على إسرائيل لجرفتها السيول ولكن واقعيا لم يجد المسلمون من الماء ما يكفي لإغراق هذه الغدة السرطانية وطمسها عن الوجود.
نظريا ليس هناك ما يمنع من توحيد العرب في أمة عربية واحدة ولا يبقوا امما متفرقة ومتنازعة فالتاريخ واحد واللغة واحدة وتجمعهم العادات والتقاليد والأصل الواحد وعلى أرضهم نزلت الرسالات السماوية ومنها انطلقت في مختلف بقاع العالم وهي مهد الحضارات والعلوم والطب والفلسفة لكن واقعيا لم يكن بالإمكان الاتفاق بين دولتين على إقامة وحدة بينهما فتجربة الوحدة بين مصر وسوريا دليل ساطع على فشل العرب في توحدهم إذ أن الجمهورية العربية المتحدة لم تدم لأكثر من ثلاث سنوات حيث جاء الإنفصال بين الدولتين (مصر - سوريا ) ضربة قاصمة للآمال العربية ولأهداف الأمة وتطلعاتها ومستقبلها ولأي محاولة توحيدية قد تخطر ببال أحد من الأنظمة العربية فقطعت الطريق حتى على الحلم العربي بالوحدة. 

إقرا أيضا:  وثيقة حماس: من المقاومة إلى الحرب الأهلية

نظريا كان يمكن للعرب أن يحققوا انتصارا ساحقا ضد إسرائيل في الخامس من حزيران لعام 1967 إذ أن أربع دول عربية محيطة بها خاضت الحرب ضدها اثنتان منها تمتلك كل منهما جيوشا جرارة وسلاحا متطورا وأنظمة قتالية حديثة عدا الإمدادات العسكرية التي أتت من العديد من الدول العربية الأخرى المساندة لدعم جبهة المواجهة. عدا المناخ العربي العام الذي يسيطر على الشعوب العربية المعبأ والمشحون لمحاربة العدو الصهيوني لكن واقعيا مني العرب بهزيمة ميدانية نكراء عدا الهزيمة السياسية والهزائم المعنوية والنفسية التي اجتاحت الوطن العربي من المحيط الى الخليج. 
فخسرت مصر صحراء سيناء وسوريا خسرت الجولان والأردن خسر الضفة الغربية وخسر لبنان بعضا من المناطق الحدودية من بينها مزارع شبعا. 
وخسر الرئيس المصري الراحل والزعيم العربي جمال عبد الناصر فضلا عن أرضه خسر هيبته ومصداقيته وتأثيره في النفوس ووافق مرغما على القرار الدولي 242 الذي قضى بإعادة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في هذه الحرب إلى أصحابها لكن حتى اليوم فإن إسرائيل لم تتنازل عنها. 

إقرا أيضا: فشل إيراني في إدارة الأزمات الخارجية

الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي رفع شعار تحرير فلسطين من الداخل والخارج لكنه بعد سلسلة من الحروب والتجارب المرة مع الأنظمة العربية اصطدم بالواقع واكتفى بمطلب الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. 
التنظيمات الفلسطينية اليسارية بمجملها رأت نظريا باحتلالها للأردن قد يشكل ذلك منطلقا للمقاومة بغية تحرير فلسطين لكن بعدما استعادت وعيها من خلال ملامستها للواقع الذي أنتج هزيمة مرة للفلسطينيين على يد النظام الملكي في الأردن عام 1970 اكتفت في النهاية بأقامة سلطة على أي شبر يتم تحريره من الأراضي الفلسطينية. 
حركة حماس التي انطلقت نظريا لخوض غمار التحرير وانغمست في حروب مع باقي التنظيمات الفلسطينية وبالأخص مع السلطة ومع منظمة التحرير أكثر مما خاضت حروبا مع إسرائيل ودفعت اثمانا باهظة دون ذلك. 
واليوم فإنها تتراجع إلى حدود الواقع والقبول بدولة على حدود ال1967 وهي بذلك تسلك الطريق الذي سلكه السابقون بالدعوة إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني ثم تراجعوا عن هذا الخيار تحت ضغط العودة إلى الواقع هذا التراجع ليس خيانة وليس عيبا وبالتالي ليس انهزاما. بل هو عين الصواب وربما يكون فضيلة فالهبوط من فضاء الأحلام والخيال إلى أرض الواقع هو الحقيقة بعينها والصواب بعينه والعودة من التطرف إلى الاعتدال هو المحاكاة للواقع بعينه. 

إقرا أيضا: خيارات المواطن في ظل الفلتان الأمني
فتحرير فلسطين في ظل هذه الوقائع الدولية والإقليمية والعربية ليس فقط صعبا بل هو مستحيلا وخارج حدود المدارك العقلية ولا بد من التعامل مع القضايا العربية في إطار الواقع وليس في الإطار النظري المبني على الكثير من الأوهام. 
وأكثر شيء يمكن أن ينجزه العرب اليوم هو وقف الاستيطان واحراز دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين. 
ففلسطين لن تعود إلى أهلها بالكامل لكن حتى هذا المطلب يزداد صعوبة مع نظرية قادة في حزب الله من الصف الأول لا يرضون بأقل من فلسطين محررة من البحر إلى النهر.