يقرأ حارث سليمان، عضو اللجنة التنفيذية لحركة التجدد الديمقراطي وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، طبيعة الأزمة التي يمر بها النظام اللبناني، كاشفا في حوار مع “العرب” عن عمق الهوة التي تفصل بين السلطة والناس وعن تهرّب كل القوى السياسية من الانتخابات. وينبّه إلى استحالة إجراء الانتخابات في المناطق الشيعية.
 
لا تكاد تختفي أزمة في لبنان حتى يطل شبح أزمة أخرى من وسط كومة الأزمات التي تثقل كاهل البلد ويتضاعف وقعها بفعل التأثيرات الإقليمية والتطورات الخارجية. في المقابل لا يلوح شبح استقرار قريب في الأفق اللبناني وسط الجدل حول الانتخابات واستفزازات حزب الله في الداخل والخارج وتصاعد غضب اللبنانيين من الفساد المنتشر في مختلف المؤسسات.
 
فجّر هذا الواقع أزمة ولاء الناس للسلطة وأضرّ بصورتها. ويقدّم حارث سليمان، الباحث اللبناني وعضو اللجنة التنفيذية لحركة التجدد الديمقراطي، قراءته لهذا الوضع مشيرا في حوار مع “العرب” إلى أن عناصر شرعية أي سلطة تقوم على ثلاثة شروط: الشرط الأول يفرض أن يتم تجديد شرعيتها عبر الآليات الديمقراطية أي الدستور.
 
ويرتبط الشرط الثاني بمدى قدرتها على القيام بوظائفها وأهمها الأمن، والحماية من الأخطار الخارجية وتنفيذ الخدمات العامة. والشرط الثالث هو أن تكون مستندة إلى قاعدة أخلاقية مبنية على أساس الرضى العام بها، حيث أن كل سلطة هي مزيج من الرضى والقوة.
 
لكن حارث سليمان يعتبر أن لا شرط من هذه الشروط يتوفر في السلطة القائمة حاليا في لبنان فهي متأخرة في حلّ الكثير من الملفات التي تهم الناس، كملف الكهرباء ومحاربة الفساد وإجراء الانتخابات. ويربط بين فقدان السلطة لأسباب وجودها وبين خوفها الواضح من إجراء الانتخابات النيابية.
المقاومة الشيعية
 
تنتشر في الوسط اللبناني مقاربة عامة للشأن الشيعي تعتبر أن الثنائية الشيعية قد أحكمت سيطرتها بالكامل على الساحة الشيعية وأن لا وجود فعليا لحركات اعتراض على هذه الهيمنة. لكن حارث سليمان يؤكد عكس ذلك فهو يُعدّ من الأصوات الشيعية التي تطرح رؤى بعيدة عن مسار حزب الله وتوجهه.
 
ويرفض الباحث السياسي هذه المقاربة ويؤكد أن “المقاومة الشيعية لحزب الله لم تتوقف، لكن الأزمة تكمُن في عدم وجود خيار بديل عنه. عدد كبير من اللبنانيين الشيعة يقاومون حزب الله ويرفضون خياراته بشكل دائم وينتهزون أيّ فرصة يمكنهم من خلالها التعبير عن مواقفهم دون التعرض لخطر كبير.
 
يقرأ سليمان تعامل الإعلام مع ظاهرة المقاومة الشيعية لحزب الله مشيرا إلى أن آلة حزب الله الإعلامية تقوم بنفي وجود هذه المقاومة، ويساعده في ذلك الإعلام الذي يدعي معارضة حزب الله عبر عدم اعترافه بفعاليتها، لأن القوى السياسية يناسبها اختصار الشيعة بحزب الله والاستمرار في التمديد للرئيس نبيه بري الذي لا يمثل في نهاية المطاف سوى الكف الناعم ليد حزب الله الغليظة.
 
ويكشف عن محطات عديدة برز فيها الاعتراض الشيعي على حزب الله مؤكدا أن عددا هاما من شيعة لبنان لا يؤيدون حزب الله وقد باشروا بتوجيه أصابع الاتهام له، فقد كان معظم المشاركين في الحراك المدني والاحتجاجات التي رافقته من الشيعة. كما أن نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة كشفت عن حيوية سياسية واعتراض عالي النبرة.
 
ومن بين أحدث المواقف الدالة على رفض النخب الشيعية لسلوك حزب الله، اجتماع قيادات شيعية ومجموعة من شيعة لبنان في دار السفارة السعودية بوجود رباب الصدر وعائلتها لتكريم الإمام موسى الصدر.
 
ويشدد سليمان على أنه ليس صحيحا أن حزب الله يستطيع أن يحدد للنخب الشيعية والعائلات السياسية داخل الطائفة الشيعية سلوكها متخذا من سعي الحزب إلى تأجيل انتخابات المجلس الشيعي الأعلى دليلا على رفض النخب الشيعية لهيمنة حزب الله على القرار الشيعي.
 
وينبه إلى أن الحزب سعى إلى طمس هذه الحقيقة عبر تأجيل انتخابات المجلس الشيعي كي لا يتم الكشف عن ضعف حضوره في وسط النخب الشيعية لأن الهيئة الناخبة في المجلس محصورة بهذه النخب.
الانتخابات في المناطق الشيعية
 
 
تدل خارطة القوانين الانتخابية التي تطرحها التيارات السياسية على وجود نزعة لمصادرة نتائج الانتخابات بشكل مسبق وتحديد الأحجام والحصص قبل إجراء الانتخابات. ويوضح أستاذ العلوم السياسية أن ما يجمع بين كل القوى السياسية التي تقدم على طرح مشاريع قوانين انتخابية هو أنها تريد معرفة نتيجة الانتخابات قبل إجرائها، حيث يسعى كل فريق إلى معرفة حجم حصته النيابية مسبقا، وإذا لم يتمكن من ذلك يعلن عن رفضه للمشاريع المطروحة.
 
ووسط الجدل حول الانتخابات وقانونها وتوقعاتها يعتبر سليمان أن النقاشات تطال الشأن الانتخابي في كل البلد وتستثني المناطق الشيعية، وهذا عائد إلى كون الجميع يعلمون أن لا انتخابات في المناطق الشيعية. وليس السبب في ذلك هو الشعبية الجارفة لحزب الله وأمل كما يحلو للبعض القول، ولكن لأن الثنائية الشيعية تؤثر في نتيجة الانتخابات. ويضيف أن هذه الثنائية تدير الانتخابات في المناطق الشيعية ولا تسمح للخصم بالمراقبة، كما أن الدولة تتخذ صفة المتفرج على الانتخابات في الأقلام الشيعية.
 
ويخضع موظفو الداخلية الذين يقومون بوظيفة رؤساء الأقلام خلال الانتخابات لأوامر حزب الله، وهو الذي ينظم المحاضر في نهاية النهار ويعلن النتيجة بغض النظر عن مطابقة هذه النتيجة للأوراق الموجودة في الصناديق، وهو الذي يرفع نسبة التصويت. وتظهر المقارنة بين نتائج الانتخابات البلدية ونتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي جرت عام 2009 مجموعة من المفارقات البارزة. ومن الطبيعي أن تكون نسبة التصويت في الانتخابات البلدية مرتفعة، كون البلديات مرتبطة بشأن محلي، ما يدفع الناس للتحمس والذهاب إلى القرى للتصويت. يفرض هذا الأمر أن تكون نسبة التصويت في الانتخابات البلدية متفوقة على نسبة التصويت في الانتخابات النيابية.
 
ويؤكد الكاتب السياسي أن ما جرى فعلا يناقض هذا المسار تماما حيث أن الأرقام المعلنة تظهر تفوّق نسبة التصويت في الانتخابات النيابية على نسبة التصويت في الانتخابات البلدية. وقال “أتحدى وزارة الداخلية أن تنشر بيانات مفصلة لنسبة التصويت في كل قرية في الانتخابات البلدية مقارنة بنسبة التصويت في الانتخابات النيابية”.
 
يخلص حارث سليمان إلى أن الفارق بين نسبة التصويت البلدي والنيابي والذي يكشف عن تفوق لصالح الانتخابات النيابية ليس سوى نسبة التزوير، وهو قائم على كمية الأوراق التي تضعها الثنائية الشيعية بعد الساعة الرابعة، والتي تتضمن تصويت المغتربين والموتى في عملية تزوير واضحة وصريحة.
 
والنتيجة التي توصل إليها هي أنه بغض النظر عن قانون الانتخاب الذي سيتم اعتماده فإنه في حال لم تتم الانتخابات في ظل رقابة دولية تطال المناطق الشيعية وإدارة الدولة للانتخابات في تلك المناطق وقدرة القوى الأمنية على ضبط الأمن الانتخابي ولجم تدخل ميليشيات حزب الله وأمل، فإن لا شيء يسمى انتخابات سيكون ممكنا في المناطق الشيعية. سيكون الأمر مقتصرا على استفتاء، ولعل هذه العبارة التي طالما رددتها الثنائية الشيعية تكشف عن طبيعة سير العملية الانتخابية في المناطق الشيعية.
يشهد لبنان ظاهرة تدخل رجال الدين والمؤسسات الدينية في كل المجالات سواء أكانت فنية أم ثقافية أم غيرها، وينصب هؤلاء أنفسهم أوصياء على الأخلاق العامة والفضاء العام. ويعود سبب تدخل رجال الدين والمؤسسات الدينية في الحياة العامة كما يلفت سليمان إلى “غياب الدولة التي تكمن أولى مهماتها في ضبط الحيز العام للمواطنين. فقد أدى استلاب الدولة من قبل الطوائف إلى بروز ظاهرة تدخل رجال الدين في الشؤون العامة. هنا لا بد من السؤال حول ما يجيد هؤلاء فعله أساسا.
 
ويرى أنه يجب عليهم الكشف عن قدراتهم وتحصيلهم المعرفي الذي يؤهلهم للخوض في كل الشؤون الفنية والعلمية والأخلاقية والسياسية. ويربط بين كثرة رجال الدين وبين ظاهرة التسرب الدراسي موضحا أن طبقة رجال الدين الحالية هي “حصيلة التسرب الدراسي”، حيث أن من لم ينجح في اجتياز المرحلة المتوسطة أو الثانوية يتحوّل إلى شيخ يفتي في الشؤون العلمية والحقوقية والفلكية والإدارية ويتجلى هذا الوقع بشكل خاص في صفوف الطوائف الإسلامية.
 
 
الحرب ضد إسرائيل
 
شكّل وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة الأميركية ضغطا كبيرا على إيران مع تبنية سياسة ميالة إلى التصلب في وجهها، وسعيه إلى إعادة النظر في الاتفاق النووي معها، وخطاباته المتكررة حول ضرورة تقليص نفوذها.
 
ويلفت عضو اللجنة التنفيذية في حركة التجدد الديمقراطي إلى أن إيران تعتمد على حزب الله للرد على التصعيد الأميركي ضدها عبر بوابة الجنوب اللبناني من خلال عراضات مثل العراضة الإعلامية التي قام بها حزب الله مؤخرا على الحدود، كي يمكن لإيران استعمال ورقة فتح جبهة مع إسرائيل انطلاقا من لبنان.
 
ويشير إلى أن الخيارات الإيرانية وخيارات حزب الله لا تبدو ميالة إلى اعتماد المنطق والعقلانية بل هي خيارات تريد من اللبنانيين عموما ومن شيعة لبنان خصوصا أن يموتوا فداء لإيران من أجل تحسين ظروفها التفاوضية.
 
من هنا لا يشك إطلاقا في أنه في حال أمرت إيران حزب الله بتوتير الأجواء في الجنوب مع إسرائيل فإن الحزب سيستجيب دون تردد ودون أن يبالي بمصلحة الشيعة في لبنان ولا المصلحة اللبنانية العامة. فتنفيذ تعليمات المرشد الأعلى أولوية الحزب لذا قد لا يكون مستبعدا اللجوء إلى تصعيد التوتر مع اسرائيل، وافتعال اشتباك مسلح معها على الرغم من أن هذا الأمر ليس سوى ضرب من الجنون.
يتوقع سليمان أن تعجز القوى السياسية اللبنانية عن لجم هذا المسار في حال قرر الحزب اعتماده لأن “السلطة في لبنان يديرها حزب الله، وتاليا فإن سيناريو الحرب ضد إسرائيل الذي لا يبدو مستبعدا، لا يمكنه أن ينتج ردة فعل فاعلة حيث أن جل القوى السياسية لا يمكنها سوى أن تمارس اعتراضا لفظيا دون أي وزن فعلي”.
 
لا يركن حارث سليمان إلى مقاربة متعجلة للشأن السوري تردد مقولة اقتراب نهاية الأزمة، بل يرى أن المسار السوري لا يزال غائما فبعد أن كان الأسد والروس والإيرانيون يتوهمون أن الأمور حسمت لصالحهم وأن الجو العام بات ميالا إلى إنتاج تسوية تضمن لهم السيطرة على مقاليد الأمور جاءت الضربة الأميركية على رمزيتها لتعيد خلط الأمور، كما كشفت أن أولوية الرئيس الأميركي دونالد ترامب تتضمن تصفية داعش وإزالة الأسد.
 
ويكمن الجديد في التعامل مع الملف السوري من خلال وجهة نظر حارث سليمان في وجود عمل جدي على الأرض لضرب تنظيم الدولة الإسلامية انطلاقا من رؤية تؤمن بتلازم نهاية داعش ونهاية الأسد. تجري حاليا عملية محاصرة داعش بشكل جدّي، ويرجّح أن تشهد الفترة القادمة نهاية الوجود العلني لتنظيم الدولة الإسلامية. بعد ذلك تنتقل الأزمة من محاربة الإرهاب إلى ترحيل الأسد. وهذا المسار قد يأخذ بعض الوقت.
 
ولن ينتج إنهاء الاقتتال في سوريا حلا فوريا لمسألة اللاجئين السوريين في لبنان، فقد يكون ممكنا إنهاء القتال في سوريا خلال فترة عام ولكن عودة السوريين لا ترتبط، كما يؤكد سليمان، بإنهاء القتال بل بإعادة الإعمار وهو مسار يتطلب دعما ماليا ضخما وفترة زمنية لا تقل عن خمس سنوات على أقل تقدير.
 
شادي علاء الدين
 
ويضيف أن لبنان يتعرض إلى امتحان قاس في مسألة اللاجئين السوريين وما تشكله من ضغوطات على سوق العمل والبنية التحتية. ولا تبدو الدولة قادرة على إدارة هذا الملف حيث أن هناك اتفاقا على حفظ الأمن فقط من أجل الحفاظ على الاستقرار في لبنان ومنع توجه السوريين إلى أوروبا. وهذه الصيغة متوافق عليها من كل الأطراف الدولية بغية تحويل لبنان إلى مخيم لجوء كبير لتجنيب الغرب عمليات تدفق اللاجئين.