عشت بيروتياً من عائلة صغيرة لا وزن لها، أبي كان من رواد مقاهي بيروت كان يحترق كلما تقفل واحدة منهم، ترك لي أرشيفاً من الصور في قهوة الازاز والشاطئ الشعبي لبيروت، وطحن نفسه ليعلمني أمثالاً شعبية لا زلت استخدمها الى اليوم ولا أحداً يمفهمها سوى قلة.
 

والدتي بيروتية، من عائلة صغيرة أيضاً تلك العائلات التي لم يدعوها أحد السياسيين الى موائدها ليجذبوا اصواتهم، أمي تحمل في يومياتها العادات والتقاليد البيروتية، تتحفنا دوماً بأكلاتنا التقليدية، لا زالت تهندس منزلها على النمط البيروتي القديم، وترفض أن تزينه بألوان مبهجة فقط تستخدم الأبيض وتلون جدراننا بصور أبيض وأسود لجدتي وجدي الذين رحلوا.
تدخل الى منزلنا المتواضع تجد أدق التفاصيل البيروتية، ياسمينة على المدخل، وتطريزات قماشية على الطاولات "الطربيزة" ورائحة الثوم والبصل تفوح، وكيس الملوخية المجفف معلق على جانب حائط الشرفة،.
أمضيت لسنوات في مدارس بيروت الرسمية، رفاقي أغلبهم من العائلات الفقيرة وهي الأغلبية الكاسحة في بيروت، تأثرت بأغنيات أحمد قعبور، واحترقت عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وشاركت بالثورة بدون كلل، لكنني كنت أعود الى منزلي لأرى مساحتي البيروتية تضيق بي، أبعد كل يوم عن بيروت متراً اضافياً بدأنا من الأشرفية ووصلنا الى طريق الجديدة، وحلمي اليوم أن أشتري بيتاً في برجا.
أخسر كل يوم صديق جديد، أحدهم يهاجر، وأخر يموت، ومن تبقى يهجرون بيروت بدون ان يدق احداً ناقوس الخطر.
أخاف أن أترك والدتي وحيدة في منزلها البيروتي بعدما تغربت أنا واخوتي عن بيروت، أن أترك ذاكرتي المثقلة بمشاعر وأحاسيس ولا أنقلها الى أولادي، أن تتحول سلالتي الى ابناء قرية يتمنون النزول الى المدينة ليعيشوا فيها، وأكثر ما يقهرني هو تصنيف البيارتة لدرجات، درجة أولى، ودرجة ثانية، ودرجة الله لا يردها ولا أحدا يعترف بها.
هواجسي ليست تزفيت طريق هنا أو بناء مستوصفاً هناك، هواجسي ثقافية إجتماعية تراثية، هاجسي الوحيد أن لا يندثر ذكري من بيروت التي حلمت يوماً ما أن أقدم لها شيئاً.
من العام الماضي.