أطاحت الثورة الفرنسية عام 1789 بالمفاهيم القديمة، ولا سيّما الدينية، لتستبدلها بنموذج الدولة المدنيّة المستنِدة الى المساواة والعدالة والأخوّة، فحرّرت الإنسان والإنسانية من سطوة العبودية وجعلت منه حرّاً ديموقراطياً في الخيار والوجود.
 

اليوم، وبعد مضي عقود على الثورة، لم يبق من فرنسا إلّا ديموقراطية تقود الناخبين نحو مسارَين مختلفَي المصير والمسار.

الأول، تعهّدت فيه الزعيمة اليمينية المتطرِّفة مارين لوبن، بعد صدور نتائج الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية، بالدفاع عن فرنسا من «العولمة المتوحّشة»، وذلك بعد تأهّلها للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة ضدّ المرشح الوسطي إيمانويل ماكرون.

الثاني، أكّد فيه ماكرون أمام أنصاره المتجمعين في جنوب باريس، أنّه سيحمل «صوت الأمل» لفرنسا ولأوروبا، مؤكّداً عزمه على أن يكون رئيس الوطنيين في مواجهة خطر القوميين.

دخلت فرنسا دوامة النزاعات الدولية، خصوصاً مع بروز موجة مواقف من دول تدفع نحو القومية والمصلحة الذاتية، ليضع الناخبُ الفرنسي نفسه أمام خيارَين لا ثالث لهما، فإمّا العولمة والبقاء في الإتحاد الأوروبي، وإما فرنسا أولاً والعودة إلى القومية.

عالمُ اليوم تتسارَع أحداثُه وتتّجه أكثر فأكثر نحو عودة القوميات فيه. بعد زمن، استغلّت فيه القوى الفاعلة في العولمة النظام العالمي الجديد، وفرضت واقعاً استعمارياً حدّت من خلاله دور الدولة - القومية. فانسحقت الهويات الوطنية أمام الهوية العولمية بقيادة شركات متعدّدة الجنسيات أضعفت الدول، وهيمنت على طاقاتها ومقدّراتها.

أمّا أبرز الأحداث التي استنهضت الفكر القومي في فرنسا، وزادت من حظوظ المرشحة اليمينية المتطرِّفة لوبن، نجد:

- نتائج الإنتخابات الأميركية ووصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة مع ما يحمله من سياسة قومية تحت شعار «أميركا أولاً»، حيث فتحت الجدال على مصراعيه أمام دول القرار، حيث يعمل على فرض القومية الأميركية نموذجاً أوحد على العالم، لذلك سارع لنقض الإتفاقات السابقة، مع الحلفاء قبل الأعداء، وإعادة صياغتها بما يتناسب مع مصالح بلاده.

- عولمة الإرهاب التي باتت تُقلق الدول عبر تسّرب الإرهابيين وفكرهم إلى دولها، حيث يستغلّ الإرهابيون موجات النازحين والمهاجرين ليضربوا عمق الدول الكبرى. وكان آخرها الإعتداء الإرهابي في «الشانزليزية» الفرنسية قبل أيام من الدورة الأولى.

- انسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي وسط ذهول الأوروبيين، والعودة إلى بناء قوميّتها. ما زاد من حماسة الفرنسي لإختيار التصويت لمصلحة القومية، ما يؤكّده نسبة اليمين المرتفعة.

- المواقف للدول القومية، ولا سيما روسيا وكوريا الشمالية، من الأحداث الدائرة في العالم عبر بسط النفوذ عن طريق القوة في مناطق النزاع العالمية، الأمر الذي سلّط الضوء مجدداً حول فعالية الدولة - القومية لفرض ذاتها دولياً.

- عولمة الشركات التي أنهكت اقتصاديات الدول في ظلّ التفلّت الضريبي. إضافة إلى الأزمات التي أحدث احتكارها مشكلاتٍ إقتصادية، انعكست منافسةً داخلية على الشركات الوطنية، فزادت في أعداد البطالة والفقر.

لم تعد المعركة الإنتخابية تقف عند حدود فرنسا فقط، بل تخطّتها لتنعكس واقعاً مهدِّداً للنظام العالمي - العولمي في تغييره. فبغض النظر عن الفائز في الدورة الثانية، إلّا أنّ نتائج الدورة الأولى لها دلالاتها على الشارع الفرنسي أولاً والأوروبي والعالمي ثانياً. وفي طبيعة الحال العربي كون أفكار كلا المرشحين من مشكلة الهجرة والنزوح متقاربة، ولو في الخفية.

أخيراً، عودة فرنسا إلى قوميّتها وجذورها، لا شكّ في أنّها ستُغيّر في مسار الحركية الدولية، ولا سيّما في منطقة الشرق الأوسط التي هي اليوم محور اهتمامات قيادات الدول، حيث ستعمل فرنسا على التفتيش مجدّداً عن مكاسبها وإعادة بناء مصالحها فيها، وما تصريحات لوبن حول النظام السوري إلّا دلالة على أنّ فرنسا لن تكون شاهدة زور على ما يحدث.