سريعاً ما اشتعلت على جبهة أخرى في لبنان. الشيعة والسنة لم يعودوا خط الانقسام الراهن. التوتر اليوم عنوانه «مسلمون ومسيحيون». الانتقال من خط التوتر الأول إلى خط التوتر الثاني تم بخطوات رشيقة. وسائل التواصل الاجتماعي شحنته بمضامين جديدة، وبلزوجة راحت تُغذي مناطق الاحتكاك والسهر والعمل. قانون الانتخاب الذي فجر القضية ليس مهماً في سياق فهم ما جرى، بل المهم إشارته إلى أن الهشاشة وصلت إلى الطائفية والمذهبية، ذاك أن الأخيرة غير صلبة بدورها، كما هو غير صلب الاقتصاد والأمن والتعليم. الطائفية كذبة جوهرية في لبنان بوسعها أن تنقل حقل اشتغالها من مواجهة طائفة إلى مواجهة أخرى في غضون ساعات.
لا شيء أسهل من أن ينتقل السنة والشيعة من كراهية بعضهم بعضاً إلى كراهية المسيحيين. والعكس صحيح، فالعونيون، أصحاب نظرية تحالف الأقليات، انقلبوا سريعاً على الأقلية الشيعية الحليفة وراحوا يكيلون الشتائم لها، ومنهم من لوح بأن «شيعة جبيل على مرمى حجر من قرانا».
لمتوهم مثلي بأن الانقسام الشيعي السني قوي وجوهري ويتعدى لبنان، وأن خط الانقسام بين المسلمين والمسيحيين براني وغير ذي موضوع جدير بأن يستمر، أن يتمهل قليلاً، ذاك أن هامشية موقع لبنان كفيلة بتتفيه حرب بوزن الحرب الشيعية السنية التي تقسم المنطقة كلها، بدءاً من باكستان ووصولاً إلى لبنان. قانون الانتخاب الذي سينتج طبقة سياسية تعاود توزيع الثروة على القوى السياسية والطائفية، أكثر أهمية بالنسبة إلى سياسيي لبنان من الصراع بين الهلال الشيعي المرتسم اليوم من العراق إلى اليمن، وبين «الأمة السنية» المتصدعة بفعل الطموحات الإيرانية. أما حلف الأقليات الذي راود العونيين، فهو بدوره لم يصمد أمام طموحات جبران باسيل بقانون انتحابات يوفر له حصة أكبر في حقول النفط العتيدة أمام السواحل اللبنانية. 
يبدو أن الطائفية، التي كنا نعتقد أنها حقيقتنا الوحيدة، تافهة ولا تستحق كل هذا العداء الذي ناصبناها إياه. فسريعاً ما جرى تحويل مجراها. حصل ذلك بسرعة أكبر من السرعة التي اقتضاها تحول ميشال عون، قبل أن يصير رئيساً، من 8 آذار إلى 14 آذار. كل شيء تغير في غضون ساعات قليلة. محطات التلفزيون اللبنانية عادت واصطفت وفق المنطق الجديد للانقسام. أقسام الشرطة أيضاً، والمقاولون كفوا عن بيع أبناء الطوائف الأخرى منازل في مناطق طوائفهم.
يعكس هذا المشهد حيوية أيضاً، إذ في وسع اللبنانيين أن يقولوا اليوم إن سرعة تحول خط الانقسام المذهبي في بلدهم من سني شيعي إلى إسلامي مسيحي هو علامة مرونة ورشاقة، وهو هذه المرة بقي منضبطاً بحدود التوتر غير الميداني. وطفرة التوتر الجديدة والطارئة جرت على وقع أعيادٍ مسيحية تم خلالها تضخيم طقسها الاحتفالي بحيث شابهت تضخيمات موازية كانت شهدتها في السنوات الأخير أعياد المسلمين. أطلقت دعوات لإقفال أماكن السهر «احتراماً لآلام المسيح»، ونصبت خيم في الساحات في هذه المناسبة لم يسبق أن نُصبت. وثار «المؤمنون» على محطة تلفزيونية عرضت فيلماً عن حياة المسيح لا يتبنى الرواية الكنسية.
إذاً، المسيحيون أيضاً يريدون سياقاً من الصعود نحو جلجلتهم، يشبه صعود المسلمين نحو انفجار علاقاتهم، والمرء إذ سبق أن توهم أن عودة المسيحيين إلى تصدر الحياة العامة في لبنان خيار تقدمي في ظل الخيارات الماضوية للمسلمين، شطبت وجهه قابلية المسيحيين لسلوك طريق الماضي. وخلاف على قانون الانتخاب كفيل ببعث التشابه بين الجميع في هذا البلد الذي لا يشبه إلا نفسه.
تبقى مفاضلة جوهرية يمكن المرء أن يُغامر بخوضها في ظل هذا القدر الذي يكرر نفسه في لبنان. فأخذ مسافة واحدة من خطوط الانقسام المختلفة في لبنان لا يعفي من الاختيار بينها. المسلمون اللبنانيون سنة وشيعة هذه خياراتهم، ومعظمها غير لبناني، ومعظمها أيضاً متصل بحروب الإقليم وكوارثه. ضيق المسيحيين أكثر لبنانية، وانخفاض طموحاتهم وقصور خيال شخصياتهم وأحزابهم أقل كلفة من طموحات الالتحاق بكارثة الإقليم وبانفجاراته. يبقى أن ينصح المرء جبران باسيل بأن يُبقي على طموحاته بقانون انتخاب يوفر له حصة في حقول النفط، وأن لا يوسعها لتشمل «تحالف الأقليات»، فهناك تنتظر المسيحيين وتنتظرنا كارثة أكبر.