تنطلق في تركيا اليوم معركة الاستفتاء الأكبر، ربما في تاريخ البلاد الحديث، نظراً لما قد تحمله معها من تداعيات على مستوى النظام السياسي وعلى مستوى الاقتصاد والسياسة الخارجية والأمن. وعلى الرغم من أنّ بعض الاستطلاعات الأخيرة كانت قد أشارت إلى تقدّم طفيف للمعسكر المؤيّد للتعديلات الدستورية، فإن إمكانية القطع بهذا الأمر تكاد تكون مستحيلة، لا سيما مع التجارب الأخيرة في الولايات المتحدة وبريطانيا العام الماضي التي أثبتت عدم صحّة توقعات الاستطلاعات وتمّ تسجيل مفاجآت.
 

خلال الشهرين الماضيين، لم يتفق المعسكر المؤيّد للتعديلات الدستورية مع المعسكر المعارض لها إلا في نقطة واحدة، وهي أنّ «التصويت بـ «لا» لن يغيّر شيئاً وأنّ الأمور ستبقى على ما هي عليه». المعسكر المعارض للتعديلات يريد أن يقول للناس «لا تخافوا، فإن صوّتم بـ «لا»، لن يحصل شيء وسنبقى محافظين على النظام البرلماني في البلاد». أمّا المعسكر المؤيد، فهو يريد أن يقول للناس «لا تخافوا من الخسارة، فسنبقى مسيطرين على الوضع، ولن تحصل فوضى أو خلافه».
مثل هذا الادعاء للمعسكرين لا يتمتع بالدقّة الكافية، وقد استخدمه كل منهما لدوافع مختلفة.

تأثير رفض التعديلات
المؤشرات الموضوعية الناجمة عن التصويت بـ «لا» تقول ما يخالف هذه الادعاءات. إذا ما نجح المعسكر المعارض للتعديلات الدستورية فستكون هذه أوّل هزيمة لحزب العدالة والتنمية منذ عام 2002، وستكون كذلك بمنزلة هزيمة للرئيس رجب طيب أردوغان الذي يُعتبر صاحب المشروع منذ أن كان رئيساً للوزراء. وهذه الحقائق ليست مجرّد تفاصيل، فهي ستؤدي الى حالة من عدم الاستقرار السياسي في تركيا وستنعكس بشكل سريع على الوضع الاقتصادي الذي يعاني ضغوطاً كبيرة في الوقت الراهن بسبب حالة عدم الاستقرار داخلياً وإقليمياً.
وإذا ما حصل مثل هذا الأمر بالفعل وتعرّض الاقتصاد إلى هزّة قوية، فسيفقد حزب العدالة والتنمية من شعبيته، والمشكلة في هذه الجزئية بالتحديد أنّه سيفقد الحصرية الريادية في المجال السياسي، وهو ما قد يدفع باتجاه تشكيل حكومات ائتلافيّة كما حصل عقب الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو 2015، حيث تصدّر حزب العدالة المشهد لكن من دون أن يكون قادراً على تشكيل حكومة بشكل منفرد، وقد أدى ذلك إلى تداعيات سلبية على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني.
في مثل هذا السيناريو، من المتوقع أن ينكمش موقع ودور الرئيس أردوغان على وقع الهزيمة، وهذا سيترك انعكاساته أيضاً على صعيد السياسة الخارجية، ويدفع الدور التركي الإقليمي إلى التراجع أو يقلل من قيمته وفعاليته في الملفات الإقليمية، لا سيما في سوريا والعراق، وهو ما قد يجعل بدوره من تركيا شريكاً ضعيفاً أو أقل مصداقية بالنسبة إلى الدول الإقليمية أو القوى الدولية التي تبحث عن شريك قوي يمكن الاعتماد عليه في منطقة الشرق الأوسط.
لا شك أنّ هذا الوضع سيحفّز بعض الدول على استغلاله من أجل ممارسة المزيد من الضغوطات السياسية والاقتصادية على أنقرة، لا سيما من قبل الاتحاد الأوروبي، الذي سيرى في هذه النتيجة فرصة ثمينة للسيطرة على سلوك أنقرة وإخضاعها.
ومع كل ذلك، لا يمكن اعتبار هذا السيناريو بمنزلة نهاية المسار، إذ سيكون بإمكان حزب العدالة والتنمية إعادة طرح تعديلات جديدة ليجري استفتاء عاماً جديداً، لكن مثل هذا الأمر يحتاج إلى وقت وجهد وستكون البلاد قد دخلت في نفق الاستنزاف الداخلي.

احتمال الفوز بـ «نعم»
في المقابل، إذا فاز المعسكر المؤيّد للتعديلات الدستورية، فإن ذلك لن يحلّ كل مشاكل تركيا كما ادّعت الحملات الإعلامية لهذا المعسكر. نعم، من المتوقّع أن يؤدي هذا السيناريو إلى حالة من الاستقرار السياسي على المدى القصير وربما المتوسّط، ولا شك أنّ مثل هذا الاستقرار سينعكس إيجاباً على الوضع الاقتصادي، لكنّه يحمل معه مخاوف جدية من انحراف تركيا عن المسار الديموقراطي وتحوّلها إلى المسار الشعبوي الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تقلّص دائرة صنع وتنفيذ السياسات العامة وتركّز السلطات التنفيذية والتشريعة والقضائية في مستوى واحد، لا سيما مع غياب الدوافع أو الحوافز لفعل عكس ذلك.
بمعنى آخر، هذا السيناريو سيعتمد إلى حد كبير على شخصية الرئيس وعلى الطريقة التي سيدير بها البلاد أكثر من اعتمادها على القوانين وعلى فصل السلطات والتوازن في ما بينها، كما أنّه يحمل في بذوره إمكانية حصول انفجار سياسي على المدى الطويل، لا سيما إذا استمر الفائز في الفوز والخاسر في الخسارة.
صحيح أنّه لا يمكن لوم حزب العدالة والتنمية على فوزه الدائم، فهو في نهاية المطاف يفوز بأصوات الناس من خلال عملية سياسية وليس بالسلاح أو بانقلاب عسكري، لكنّ المشكلة أنّ حزمة التعديلات المطروحة ليست مثالية وفيها ثغرات تثير مخاوف من سيطرة أشخاص من خلال موقع رئاسة الجمهورية على كامل النظام السياسي في البلاد، واذا ما أضفنا ذلك إلى حقيقة أنّ النظام الرئاسي سيشجّع على معادلة «الفائز يأخذ كل شيء، والخاسر يخسر كل شيء»، فإن ذلك قد يدفع الخاسرين إلى الملل من اللعبة بحد ذاتها، وربما يدفعون حينها باتجاه قلب الطاولة أو البحث عن مسار خارج النظام السياسي للتعبير عن تطلعاتهم، وهذا الأمر خطير جداً بطبيعة الحال.

تأثر السياسة الخارجية
على صعيد السياسة الخارجية للبلاد، من الممكن القول إنّ التصويت لمصلحة التعديلات سيأتي بنتائج مختلطة، إذ سيتاح للسلطات التركية المزيد من الوقت لوضع رؤية واضحة للسياسة الخارجية، خصوصاً مع إقرار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية كل 5 سنوات، وهو أمر لم يكن متاحاً في السابق، حيث شهدنا على سبيل المثال بين مارس 2014 ونوفمبر 2015 أربع انتخابات مفصليّة في البلاد، وهو أمر يحول دون قدرة السلطات على وضع سياسات طويلة الامد ويصبح التعامل مع التطورات الخارجية تكتيكياً فقط وعلى شكل ردود أفعال.
في سيناريو «نعم»، من المتوقع أن تواجه أوروبا رئيساً أقوى ونظاماً سياسياً أقوى في تركيا، وهو أمر قد يعتبره البعض سلبياً، لكنّه قد يتيح معه أيضاً فرصةً لحوار حقيقي بين الطرفين من موقع المتكافئ. لا شك كذلك أنّ الاستقرار السياسي والاقتصادي سيقوّي من موقع تركيا الإقليمي ودورها، وقد يدفعها ذلك إلى اتخاذ خطوات أكثر جرأة في ملفات سوريا والعراق، وسيتيح كذلك إجراء شراكات مع الولايات المتّحدة أو روسيا أو بعض الدول الإقليمية من موقع قوي.
لكن من السلبيات المحتملة، في ما يتعلق بالسياسة الخارجية للبلاد، أنّ الدائرة المخوّلة رسم ووضع السياسات الخارجيّة قد تتقلّص بحكم طبيعة النظام الرئاسي، وهو ما قد يعرّض السياسة الخارجية للبلاد إلى تقلّبات سريعة في المواقف استناداً إلى مواقف شخصية أو انفعالات قائمة على ردود أفعال.

غياب البدائل
في جميع الأحوال، فإنّ الشعب التركي هو من سيقرر إلى أين ستتّجه البلاد مستقبلاً، لكن من الجيّد ملاحظة أن هناك شريحة متزايدة باتت تصوّت من موقع المضطر وليس من موقع المختار، وذلك بسبب غياب البدائل التي تعبّر بشكل حقيقي عمّا يريدونه، ولا شك أنّ مثل هذا الأمر تتحمّل مسؤوليته المعارضة بشكل أساسي وليس الحزب الحاكم، وذلك بحكم ضعفها وترهّلها وبحكم توجّهها إلى شريحة محدودة جداً من الشعب التركي، بالإضافة إلى تمسكها بأيديولوجيات أو توجهات سياسية لا تعبّر إلا عن أطراف المجتمع الذي تعيش وتعمل فيه.