لعله من أميز ما يميز الحوار بين الثقافات قدرته على جمع المعرفة الإنسانية وتوظيف تكاملها نحو تحقيق أهداف كبرى تتصل بالتنمية وتوحيد الجهود الرامية إلى تحصين دور الثقافة في صناعة السلام العالمي , ولو بحثنا عن محور رئيسي لهذا الدور كان الاستشراق المعرفي ومنجزاته بارزة عند كل وقفة من مواقف الحديث عن محور التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب , غير أن هذا الاستشراق لم يكن في مجموعه انعكاساً لتطلعات الشعوب فقد ظهر في موازاته الاستشراق السياسي بقوة فقدم نموذجاً معادياً للثقافة والمعرفة منذ اللحظة التي وضع فيها نفسه في خدمة رسم السياسات الاستعمارية بشهادة ما رأيناه بالأمس القريب من أعمال - بول جونسون - وبرنارد لويس - وآخرين من المبشرين بنظريات التفوق الغربي والعنصرية الغربية .
ومن هذه المقولات وسواها جرى نقد الاستشراق السياسي بوصفه مسؤولاً بنزعته الامبريالية عن تشويه صورة العرب والعالم الإسلامي وتالياً عن إحباط مشروع حوار الثقافات والحضارات , وقد كشف المفكر الفلسطيني - ادوار سعيد - شيئاً كثيراً عن خفايا المستشرقين الغربيين ورأى في حديثه عن العلاقة بين القوة والمعرفة أنه إذا كان النشاط الإستشراقي جزءاً من مؤسسة أكاديمية لتمثيل الآخر واختزاله بقصد الهيمنة عليه , فإن الإمبراطورية الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت ضرورة جوهرية لتحديد قسمات الهوية الغربية كما نعرفها اليوم .
وفي كتابه الاستشراق يلفتنا ادوار سعيد إلى أنه ورغم المحاولات الهادفة إلى إقامة تمييزات حقة بين الاستشراق كجهد بحثي وعلمي بريء والإستشراق كحالة تواطؤ مع الإمبراطورية فإن تلك المصالح لا يمكن أن تنسلخ من جانب واحد عن السياق الامبريالي العام الذي يبدأ طوره الكوني الحديث مع غزو نابليون لمصر 1798 .
وإذن ومن ظاهرة هذا الاستشراق العدواني تمادت ظواهر توطيد الهويات المسلحة والمتحجرة بين شرق هنا وغرب هناك لتساهم بتكريس التضاد العنفي مصحوباً في مرحلة لاحقة بظهور الحركات التكفيرية والإرهابية المدعومة أساساً بمصادرها الأولى من السياسات نفسها التي بشرت بصدام الحضارات وارتطامها بعد نهاية الحرب الباردة .
ويمكن القول إذا كان الاستشراق الغربي منقسماً على نفسه بين استشراق ينادي بحتمية العداء بين الشرق والغرب بوصفهما كتلتين أحاديتين ومتنافستين سياسياً وثقافياً وبين استشراق مدافع عن حقائق التعددية الثقافية في مواجهة العدوانية المتمحورة حول الدين والعرق , فإن الوعي بنظام القيم ورد الاعتبار لدور الثقافة والدين في صناعة السلم الكوني من شأنه تعزيز الروابط المعرفية بين الشعوب وتخليص ذاكراتها من الصور النمطية والاختزالية المتبادلة في الراهن المعاصر بين الإسلام والغرب وخارج الأمثلة التي تضرب عن المخاوف ومسوغاتها وجروحها الدامية لا مناص من الدعوة إلى حوار حضاري وثقافي يؤسس للانتقال من حلبات الصراع بين الهويات المتناحرة إلى حدائق الحوار المعرفي بنقدية موضوعية يمكن وصفها وتعيينها بالمعنى الأخلاقي والإنساني لمصطلح التعارف الذي يطوي تحت أجنحته جميع الأمم والشعوب المسكونة بهدف واحد هو أن تعيش مع ذاتها ومع الآخر في اتساق متناغم عنوانه العدالة وحقوق الإنسان المنشودة من الجميع .
وفي هذا السياق لا بد من الاهتمام بملاحظة جوهرية وهي أنه لابد من الاعتراف بدور الاستشراق المعرفي والإسلامي وإسهاماته في مجال تشكيل صورة الآخر وتصحيحها بإقامة التناظر اللائق بحوار العقول أي حوار الهدف المشترك والاهتمام المشترك بالجغرافيا الإنسانية وتواريخ التواصل الثقافي والحضاري بعيداً عن حراب الاستشراق العدائي ومكائده ونزعاته التضليلية التي تربط العنف والتخلف والإرهاب بكل ما هو عربي وإسلامي .
 وعلى هذا الضوء نفهم خطورة تلك الدعوات المنادية من وراء البحار بوجوب إعادة زمن الاستعمار القديم ووصايته الإجبارية تحت عباءة العولمة لإنقاذ الشرق وتحريره من فوضى الجهل والتخلف والتوحش المتحارب باسم الدين .