أبدى القادة العرب جميعاً، في قمة البحر الميت، ضيقاً ورفضاً حيال التدخّلات الخارجية، والمهم ألا ينسوا مع اختتام القمة أنهم لم يقولوا أو يقرّروا فيها كيف سيواجهون تلك التدخّلات، فأجواء التضامن البروتوكولي لم تُنضِج الوفاق والتوافق المطلوبَين استراتيجياً للقول إن عهداً عربياً جديداً قد بدأ. تلك كانت القمة السادسة، منذ موجة الثورات والانتفاضات الشعبية، ومن الواضح أنه لم تُجرَ مراجعة عربية معمّقة، وليس هناك تقويمٌ موحّدٌ لما حدث، على رغم أنه هزّ العالم العربي بأسره وجعله «الرجل المريض» الجديد في المنطقة، بل أتاح للقوى الدولية أن تنفض غبار مئة عام عن ملفات انهيار «الرجل المريض» السابق (الدولة العثمانية) لمعاودة التفكير في التسويات التي اعتمدتها في توزيع تركته و... لـ «تصحيحـ»ـها جغرافياً وديموغرافياً وموارد اقتصادية، لكن دائماً في ضوء مصالحها، وليس وفقاً للحقائق التي كانت والتي صارت في البلدان المنكوبة. والحقيقة الأكثر بروزاً اليوم أن «تصحيح سايكس - بيكو» ينتظر صفقة دولية– إقليمية، كما هو واضحٌ في سورية والعراق، وكذلك فلسطين في السياق، من دون أن يكون للعرب كلمة مرجّحة أو حاسمة.
تلك المراجعة وذلك التقويم لا يزالان مطلوبَين، أقلّه لفهم أن ما سمّي «الربيع العربي» كان في أساسه داخلياً وأن معالجة تداعيات لا بد أن تكون داخلية أولاً، ولإدراك أنه انعكس على النظام العربي الرسمي ووضعه أمام خطر الانهيار الأخير، قبل أن يتحوّل قضية مدوّلة أو «مؤامرة كونية» كما قدّمها النظام السوري وحليفه الإيراني ليبرّرا الوحشية التي عاملا بها شعب سورية ويسوّغا لجوءهما الى تنظيم «داعش» وإرهابه واستدراجهما روسيا وأميركا لتتعاونا وتتواطآ في انقاذ بشار الأسد، فضلاً عن استدراج أميركا وتحالفها الدولي لـ «شرعنة» التخريب الإيراني وميليشياته في العراق. وفي الحالَين انساقت القوى الدولية الى اعتبار الشعبَين السوري والعراقي - وليس «داعش» أو بشار الأسد أو نوري المالكي أو إيران - عدوّاً رئيسياً. والواقع أن قوى التدخّل الخارجي تستلهم في معالجتها للأزمتين ارتكابات إيران و «داعش» على الأرض، وتستخدم «مخرجات» الإرهاب أكثر مما تولي اهتماماً لطموحات الشعبَين، أو حتى لمطالبة العرب على مستوى القمة ببقاء كل من سورية والعراق، بلداً موحّداً دولةً وشعباً. وينطبق النهج نفسه على اليمن حيث لا تكترث الولايات المتحدة إلا لحربها على تنظيم «القاعدة»، وعلى ليبيا حيث استعاد التدخّل الدولي زخمه للتخلّص من «داعش» تاركاً الصراع الداخلي/ الخارجي يتفاعل في أزمة أهلية ممعنة في تخصيب نيات التقسيم.
صحيح أن ثمة ملمحاً استراتيجياً لمع في فضاء القمة بتسليط الضوء على قضية فلسطين وشعبها، لكن المهم ألا ينسى القادة العرب ما تعهّدوه في شأن هذه القضية، والأهم أن يتمسّكوا به ويتمكّنوا من ردم الهوّة الواسعة بين الثوابت العربية المشروعة والشروط الأميركية- الإسرائيلية المجحفة لـ «التسوية». فالحل التفاوضي- السلمي شيء والتسوية شيء آخر، إذ يرتكز الأول الى القوانين الدولية وعدالتها ويمكن أن يفضي الى حال سلمية، أما الثانية فترمي الى اخضاعٍ قائم على موازين القوى وقسوتها. فكل ما ورد في قرار القمة هو نتاج سبعة عقود من صراع لم يظلم الشعب الفلسطيني وحده، بل أدّى الى تشتيت عموم العقل العربي بين تعسكر وتعقّل، وتديّن وتمدّن، واعتدال مستضعف وتطرّف مستنكر، والأسوأ أنه فرض عشوائية في مفاهيم دولة القانون والحقوق الانسانية لأن العالم العربي عاش طوال تلك العقود شاهداً مقهوراً وعاجزاً أمام وقائع الاجتهاد الأميركي لتغطية ما ارتكبته إسرائيل من جرائم حرب وإزهاقٍ للأرواح وانتهاكٍ لإنسانية الإنسان وسرقةٍ علنيةٍ للأرض ومأسسةٍ للفصل العنصري وقتلٍ مسبقٍ لكل الحلول «السلمية» المحتملة.
كان ذلك التدخّل الخارجي الذي أسّس لكل الأمراض التي استشرت في الجسم العربي، مستنداً طبعاً الى قصور داخلي عميق ومروّع، الى أن تفجّرت أولاً بالغزو العراقي للكويت وتفاقمت في الغزو الأميركي للعراق الذي دمّر «نظاماً عربياً» هشاً أصلاً وفاقداً أي مناعة ضد اعتمالاتها. وإذ تحوّل الإسرائيليون والإيرانيون غُرباناً جوارح جاهزة، متضامنة ومتنافرة، لنهش الجثة العربية الهامدة وتقاسمها، يبدو العرب مخيّرين اليوم بين اصطفافَين، مع أميركا (وإسرائيل) درءاً للخطر الإيراني أو مع إيران (وروسيا؟) في مواجهة افتراضية مع «الاستكبار العالمي». والاصطفافان متداخلان في فلسطين باستغلال الانقسام السياسي لإنتاج «حلٍّ» غير سلمي بل تقسيمي ومبتسر. وهما متداخلان بالتعايش مع هيمنة إيرانية مقلّصةٍ في العراق ونفوذ إيراني محجّمٍ في سورية، وبالتمسّك بإرهاب الأسد وتوظيف إرهاب «داعش» و «حزب الله» و «الحشد الشعبي». فالهدف هنا أيضاً هو دفع البلدَين في اتجاهٍ تقسيمي سواء باستخدام الانقسامات المذهبية لتكريس استحالة التعايش بين الشيعة والسنّة، أو بالعبث بورقة انفصال كردي ليس مؤكّداً أنه نضج لمصلحة دولة كردية قادرة على العيش بسويّة، بل المؤكّد أنه لن يكون في مصلحة العراقيين والسوريين والكرد.
لا شكّ في أن الاصطفاف الأمثل هو العربي- العربي، فلا بدّ منه ولا بديل منه، وهو الأوجب مهما كانت العقبات والحواجز والاعتلالات الداخلية، ومن دونه يبقى العرب كرةً يتقاذفها الاصطفافان الآخران، كما يفعلان الآن، ليتوصّلا في نهاية المطاف الى تسويات وصفقات على حساب العرب حاضراً ومستقبلاً. لا يُعقل أن يكون هناك تكتّل إقليمي واقع تحت كل هذه الشراهة الخارجية الضاغطة، ومع ذلك يتوانى عن ضبط خلافاته ومعالجة انفصاماته ليتعامل بشيء من التماسك مع التدخّلات أو ليتمكّن على الأقل من مقاومة خياراتٍ يعرف يقيناً، ومسبقاً، أنها ضد مصالحه. فلا دونالد ترامب حقوقي هاجسٌ بالعدالة ولا بنيامين نتانياهو داعية سلام، وكلاهما يعمل لأمر واقع يُفرَض على الفلسطينيين ويشرّع جرائم إسرائيل وسرقاتها، وبالتالي فإن أي حل يُطبخ للقضية الفلسطينية بعيداً من القوانين الدولية سيكون مجرّد تصيّدٌ للعرب في انقساماتهم ومخاوفهم الداخلية والإقليمية.
إذا قُدِّر لحلّ فلسطيني غير عادل أن يمرّ بأي شكل، على قاعدة لا دولة واحدة ولا دولتَين، ولا سيادة ولا حقوق ولا حماية للشعب، كما يتصوّره نتانياهو، فإنه سيمهّد لأسوأ الحلول في سورية، حيث داس الروس والإيرانيون بأقدامهم كل المبادئ والأعراف الدولية لتغطية جرائم مجازر الإبادة والتجويع والقتل بالسلاح الكيماوي. إذ تسعى إسرائيل الى اعترافٍ ناجزٍ بـ «شرعية» احتلالها الجولان ضمن المحاصصات الدولية والاقليمية الجارية، والسعي الأميركي- الروسي الى ترويض الإيرانيين والأتراك قبل إرضائهم في سورية والعراق، على حساب العرب. ذاك أن إرضاء طهران في اليمن لن يكون وارداً ولا متاحاً مهما كابر الحوثيون وحلفاؤهم بإطالة الأزمة وإدامة الصراع المسلّح والمبالغة في تضخيم حصّتهم السياسية.
بديهي أن التوجّهات الصحيحة، بعد قمة البحر الميت، هي التي تستكمل استعادة التقارب السعودي- المصري وبدايات الانفتاح العربي على العراق، وهي التي تتبلور في التفاهم المصري- الأردني- الفلسطيني على مقاربة واحدة بلغة واحدة للملف الفلسطيني في البيت الأبيض. لكن هذه ومضات ضعيفة في ظلام حالك، فالمصارحة والصدقية توجبان التذكير بأن الوضع العربي يحتاج الى أكثر وأن «النظام العربي» المراد إعادة تأسيسه يحتاج الى مبادرات قوية ومتقدّمة كانت يمكن توقّعها من هذه القمة، تتويجاً للجهد الأردني الذي بذل لإنجاحها. ولا يزال المجال مفتوحاً لمبادرات بل ملحّاً عليها، إذ إن المتدخّلين الخارجيين كافةً تلقوا الرسائل والإشارات العربية ولم يجدوا فيها ما يردعهم عن المضي في تزييف الحقائق وتوظيف الإرهاب ورسم الخرائط لصنع واقع عربي آخر طوْع أهوائهم، وقد يُدعى العرب بعدئذٍ الى الاعتراف بهذا الواقع ومحضه «الشرعية». وقد يفعلون، مقتنعين أو مضطرّين، إمّا بداعي الخلاص من حروب أهلية أو لأن هناك «ارادة دولية» تفرض الحلول أم لإنقاذ ما يمكن من تعايش وموارد لم تُنهب بعد. لكن الضمانات العربية لن تستطيع مهما بلغ شأنها استيعاب مثالب الحلول الخارجية وأخطائها.