تجعل سرديات التاريخ في الثقافة العربية البعض يتصور أن المغول قد اختفوا من الخارطة عقب هزيمتهم في عين جالوت (عام 1260)، متناسية حضارة كاملة ازدهرت تحت حكم سلاطينها لقرون عديدة.
 

على عكس النهاية السعيدة في الأفلام والمسلسلات، لم تتوقف الحروب الإسلامية المغولية عقب هزيمة جيوش هولاكو في معركة عين جالوت عام 1260، فقد أكمل ابنه اباقا خان المهمة وتحالف مع إنجلترا خلال الحملة الصليبية التاسعة (1271 – 1272) واستطاع الظاهر بيبرس ردها، ثم هزم المغول مرة أخرى في قيسارية الفلسطينية عام 1276، قبل الانتصار الكبير في موقعة البستان (في تركيا اليوم) عام 1277.
ثم أكمل السلطان سيف الدين قلاوون المهمة عبر موقعة حمص الثانية عام 1281، ولم ينته خطر المغول إلا بعد معركة شَقحَب بالقرب من دمشق عام 1303 على يد السلطان محمد بن قلاوون.
ويمكن القول إن أغلب المراجع العربية حول المغول، خاصة القديمة، تفتقر إلى الدقة، بينما اعتمد العالم موسوعة "جامع التواريخ" للسياسي والمؤرخ الفارسي رشيد الدين الهمداني باعتباره أهم مرجع عن تاريخ المغول جنباً إلى جنب مع كتاب "تاريخ جهانكاشاي" للسياسي والمؤرخ الفارسي علاء الدين عطا ملك جويني، وكلاهما عمل في بلاط سلالة هولاكو خان.
التتار عرفوا الإسلام قبل جنكيز خان

المغول عرفوا الإسلام من قبل ظهور جنكيز خان، في منغوليا شمال الصين، حيث وحد جنكيز قبائل المغول التي تنتمي إلى شعوب التتار، بحسب المؤرخة الإيرانية شيرين بياني في كتابها "المغول... التركيبة الدينية والسياسية".
وقد وصل الإسلام إلى منغوليا سلمياً عبر التجار العرب والفرس، بالإضافة إلى المد الثقافي للفتوحات الإسلامية في دول الجوار. وكان هؤلاء التجار هم سبب التضارب في مراجعنا حتى اليوم حول التسمية المزدوجة لشعوب شمال الصين، تارة المغول وتارة التتار.
ورغم أن الديانات الآسيوية مثل البوذية والشامانية كان لها الغلبة، فإن المسيحية واليهودية كان لهما تواجد بجانب الإسلام، وحينما أسس جنكيز دولته، كانت حاشيته تضم سنة وشيعة ومسيحيين ويهوداً وبوذيين، وفرساً وعرباً وقرغيزاً وأفغاناً وصينيين.
وكانت زوجة جنكيز مسيحية، كذلك الأمر بالنسبة لزوجة حفيده هولاكو، وقد اعتلى عرشه لاحقاً من التتار المسيحيين توراكينا خاتون زوجة أحد أبنائه وكيوك خان حفيده.
وعقب وفاة جنكيز ببعض الوقت انقسمت إمبراطورية المغول إلى: الإيلخانة (إمبراطورية مغول إيران)، مملكة جوجي (إمبراطورية مغول روسيا)، مملكة يوان (إمبراطورية مغول الصين)، مملكة جغتاي (إمبراطورية مغول آسيا الوسطى).
ورغم اعتلاء عرش الإيلخانة مسلمين مثل أحمد تكودار بن هولاكو خان ومحمود غازان بن أرجون بن اباقا بن هولاكو خان وأخيه محمد أولجايتو الذي انهى الصراع الإسلامي المغولي عام 1304، ورغم صعود علاء الدين طرماشيرين عام 1326 سلطاناً لإمبراطورية المغول في آسيا الوسطى، فإن الأمر كان مختلفاً في روسيا وتحديداً مع بركة خان.
التتار المسلمون في روسيا

كان حكم روسيا من نصيب جوجي بن جنكيز خان الأكبر، ضمن مملكة تضم أجزاء مما يعرف اليوم بالصين، روسيا، أوكرانيا، كازاخستان، مولدوفا، بيلاروسيا، رومانيا، أوزبكستان، جورجيا، بولندا، تركمانستان، أذربيجان، وبلغاريا.
كانت روسيا في بداية القرن الثالث عشر إمارات روسية منقسمة، ولم تكن المسيحية الأرثوذكسية هي السائدة في عموم روسيا كما هو الحال اليوم بل كانت تقع على الأراضي الروسية العديد من ممالك المسلمين مثل بلغار الفولغا وتتار الفولغا، وهم شعوب استوطنت روسيا قبل مجيء المغول.
سيطر المغول على روسيا عام 1237، ولكن بحلول عام 1256 جرى تحول فريد في التاريخ، لأن الحفيد المسلم لجنكيز خان، ويدعى السلطان بركة بن جوجي بن جنكيز خان زعيم القبيلة الذهبية، اعتلى عرش امبراطورية المغول/التتار في نهر الفولغا.
وعلى عكس الشائع في كتابات العرب، يشير المؤرخون الفرس الأكثر قرباً إلى نسل جنكيز بحكم عملهم، إلى أن بركة خان كان مسلماً قبل توليه الحكم، ويعد أول وأقدم حاكم مسلم من نسل جنكيز، وقد رفض بركة أن يشترك مع ابن عمه هولاكو في الحملة على بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وبعد اجتياح هولاكو لبغداد غضب بركة لما جرى، وهكذا اشتعلت الحرب بين الاثنين دون حسم عسكري.
على إثر تولى بركة عرش مملكة جوجي، كلف رجاله بنشر الإسلام سلمياً في ما يعرف اليوم بروسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة وأوروبا الشرقية، ونظراً لحربه مع هولاكو قرر الاتصال بحكام مصر المماليك والتنسيق معهم ضد هولاكو، وهكذا تحالف خان مغول روسيا مع سلاطين مصر ضد ابن عمه.

التحالف بين روسيا ومصر في زمن بركة خان والظاهر بيبرس أدى إلى تبادل ثقافي وتجاري ضخم، وأنشأ المعماريون المصريون المساجد والقصور في روسيا وشبه جزيرة القرم، وغيرها من مدن الإمبراطورية، وامتلأت المدن الروسية بالتجارة والرحالة والحرفيين المصريين، ما نقل مملكة جوجي من البدوية التتارية المغولية إلى المدنية المصرية الحديثة بمقاييس هذا العصر.
ووقع المؤرخون العرب في خطأ كارثي بالزعم أن زوجة بيبرس هي ابنة بركة خان المغولي، بينما هي ابنة حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمي، قائد فلول الدولة الخوارزمية عقب الاجتياح المغولي، وكان لهذا الفارس الخوارزمي دور هام في المراحل المتأخرة من الدولة الأيوبية المصرية.
ومثلما جرى في الأندلس وجميع امبراطوريات المسلمين، راحت الإمبراطورية المسلمة تتقسم عقب وفاة بركة خان، ما شجع النبلاء الروس على تأسيس حكمهم مجدداً إلى أن تأسست دوقية موسكو، وراح الروس يجتاحون الإمارات التتارية المسلمة الواحدة تلو الأخرى. وبحلول عام 1552 أصبحت مملكة جيجي في ذمة التاريخ، بعد أن رفع حفيد جنكيز خان وأبناؤه راية الإسلام في أصقاع روسيا.
وقد واكب انهيار إمبراطورية مغول روسيا انهيار مماثل لإمبراطورية مغول آسيا الوسطى ومغول إيران، سواء بالغزو الخارجي أو الاقتتال بين أمراء نسل جنكيز خان. ومن أوزبكستان خرج أحد أمراء تلك العائلة ويدعى تيمور ليشكل دولته التتارية من دماء شعوب آسيا وصولاً إلى الدولة العثمانية، ولما رحل عن عالمنا تفككت دولته أيضاً إلى عدة إمارات.
التتار المسلمون في الهند

مثلما جرى مع روسيا وآسيا الوسطى، وصل الإسلام إلى الهند مبكراً عن طريق التجارة، وفي نهاية القرن العاشر بدأت الدول الإسلامية في وسط آسيا تمد نفوذها في شبه الجزيرة الهندية.
وبحلول عام 1526 طلب الأمراء الأفغان حكام سلطة دلهي الهندية المسلمة من قائد سياسي من نسل تيمور هو ظَهيرْ اَلَدّين مُحَمَّدْ بَابُرْ بن عمر، حاكم إمارة فرغانة في أوزبكستان، بالتدخل لحسم اقتتالهم على العرش فدخل السلطنة وضمها إلى حكمه وأعلن في 20 أبريل 1526 قيام "إمبراطورية مغول هندوستان".
تمتاز سلالة ظهير الدين بابر مؤسس إمبراطورية مغول هندوستان بأنها كانت سلالة من الأدباء والشعراء والمؤرخين، فلا تجد سلطاناً منهم إلا له ديوان شعر أو كتاب تاريخ إلا في ما ندر، وكذلك الأمر بالنسبة لأبرز زوجات السلاطين خاصة ذوات الأصول الفارسية.
وكانت تلك الإمبراطورية المسلمة هي ذروة دمج الثقافة الفارسية والتتارية – المغولية والهندية، فامتازت بثورة في الفن والمعمار وكانت خير ختام لسلالة جنكيز خان السياسية.
ورغم أنها كانت سلالة سُنية، فإن اللسان كان فارسياً، وقد مدد السلطان ظهير الدين بابر سلطانه على ما يعرف اليوم بأوزبكستان، أفغانستان، الهند، باكستان، وبنغلاديش.
مع حكم التتار المسلمين للهند تحديداً جرت أكبر عملية نشر للدين الإسلامي وذلك دون إجبار حكومي، وقد امتد النفوذ الفارسي في بعض عمليات الدعوة الإسلامية، فنجد إمارة للهنود الشيعة هي إمارة حيدر آباد التي قامت في المنطقة التي تحمل هذا الإسم ما بين عامي 1886 و1948.
تعددية المذاهب والطوائف

أشهر سلاطين دولة مغول هندوستان بلا منازع هو جلال الدين محمد أكبر، الذي حكم ما بين عامي 1556 و1605، ومد سلطانه إلى أجزاء من إيران، وكان زواجه من الهندوسية جودا باي من قبائل الراجبوت عاملاً هاماً لنشر التسامح والهدوء بين دولة تموج بعشرات المذاهب والأديان والطوائف الدينية.
ولاحقاً حكم الإمبراطورية السلطان شاه جهان (خرم بن جهانكير)، ما بين عامي 1628 و1658، وعرف بعشقه لزوجته الفارسية – هندية المولد – ممتاز محل، وشيد ضريحها التاريخي تاج محل وهو من أروع النصب التذكارية في العالم أجمع. كما أسس مدينة دلهي.
في تلك الأثناء، وصلت السفن الاستعمارية لسواحل الهند، من البرتغال عام 1505 وهولندا عام 1605 وبريطانيا عام 1612 والدانمارك عام 1620 وفرنسا عام 1769، وتقاتل الاستعمار الأوروبي على الأراضي الهندية قبل أن تحسم بريطانيا الصراع، ثم تعمد إلى إسقاط الدويلات الهندية الصغيرة اولاً حتى تحتل مساحات كبرى تكفل لها حرباً مفتوحة مع امبراطورية مغول هندوستان.
وبالفعل خاضت الدولتان جولات عسكرية طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وكان النصر حليفاً للبريطانيين، وفي المراحل الأخيرة من عمر تتار الهند قامت الثورة الهندية (1857 – 1859) واتخذت من السلطان محمد بهادر شاه الثاني رمزاً وقائداً لها، فكان آخر سلاطين مغول هندوستان، وآخر حاكم من نسل جنكيز خان، ولما فشلت الثورة وأصبحت الهند كاملة بيد الاحتلال البريطاني تم نفي السلطان إلى بورما لتعلن بريطانيا انتهاء 332 عاماً من حكم المغول للهند.
المصدر: المغول والعالم الإسلامي، لبيتر جاكسون (مطبوعات جامعة ييل، أبريل 2017).