كتب جورج عبيد في صحيفة الديار: يشعر مسيحيو سوريا وهم يتوثبون إلى الفصح الآتي، بشعور يمتزج فيه الخوف بإرادة البقاء، وينظرون إلى ما يحصل في محردة تلك القرية التي منها سطع نجم الراحل الكبير إغناطيوس الرابع هزيم وقد أمسى فيما بعد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس. من الظلم أن يتبنّى أي قارئ بأنّ المسيحيين في المشرق العربيّ وحدهم مستهدفون دون سواهم. بل إنّ الإسلام القرآنيّ الممثّل بنخب مميزة وراقية ومفكرين متطلعين إلى النور هو المستهدف من خلال محاولة استبداله بقوى تكفيريّة انطلقت في البدء كمنظمات إحيائيّة كما سمّاها المفكر رضوان السيد، وأصولية وكأنها تحاول العودة بالدين الحنيف إلى أصوله بحروفيات نافرة وبارزة فتحوّلت إلى مشروع إسلاموفوبيا عمّ العالم كلّه ومنه انطلقت الحركات التكفيريّة في اضطهادها للفكر المستنير داخل الدائرة الإسلاميّة ولمسيحيي المشرق العربيّ.
 

يجدر في الأصل وبناء على دراسات عديدة التأمّل بمسألة دقيقة للغاية، وقد تمّت إثارتها غير مرّة، بأنّ إسرائيل عامدة على إلغاء الوجود المسيحيّ في المشرق العربيّ بأدوات مختلفة ومتعددة، ومن تلك الأدوات تلك القوى التكفيريّة المتفرّعة من دوائر استخباريّة غربيّة وعربيّة وإسرائيليّة. وقد فضحت المرشحة السابقة للانتخابات الأميركيّة هيلاري كلينتون في كتاب مذكراتها وبخاصّة حين كانت وزيرة للخارحيّة تواطؤ الإدارة الأميركيّة في انبثاث حركات أصوليّة بهدف إعلان الدولة الإسلاميّة في مصر، على أمل وبناء على رؤيتها أن يعمّ هذا المشروع سوريا وليبيا مع إسقاط الرئيس بشار الأسد والعقيد معمّر القذافي. القذافي أسقط وأعدم والأسد لا يزال ثابتًا والمحاولات مستمرة لإسقاطه على الرغم من منعته وقوته.

يتضح من كلّ ذلك بأنّ الإسلامويّة كتيار راسخ ليس له علاقة بالإسلام المحب للمسيحيّة وهذا ثابت في القرآن الكريم، بل هي نتاج تخطيط تمّ درسه طويلاً ومليًّا، بهدف زرعه في منطقة شديدة الحساسيّة من مصر إلى سوريا، وثمارها توضحت كثيرًا من خلال ما يحدث في جنوب سيناء بتحريض إسرائيليّ مباشر، وما يحدث في محردة وهما منطقتان مسيحيتان حاويتان لتجمعات مسيحيّة كثيرة العدد وكثيفة النوع.

وفي المعلومات الواضحة بأنّه لا يزال الأهالي في محردة يشعرون بالخطورة الفائقة، وفي ريف حماه يوجد تجمّع مسيحيّ كبير بالمعنى الديمغرافيّ بين قرى السقيلبيّة ومحردة وكفرحبو. وتلك القرى في ريف حماه تقع جغرافيًّا على حدود محافظة إدلب وهي تحت سيطرة تنظيم "داعش". وقد توضّح وبحسب معلومات دقيقة تسرّبت بأن ربط إدلب بحماه في الاستراتيجيا المتبعة عند التكفيريين أبعد بكثير من قيام مناطق عازلة، وقد رأت مصادر دبلوماسيّة بانّ الخطأ الاستراتيجيّ الكبير تبيّن من بعد تحرير حلب، إذ كان لزامًا على روسيا والمتحالفين معها الاتجاه المباشر نحو إدلب وتطهيرها وتحريرها بسبب موقعها الاستراتيجيّ الدقيق في واقع الحرب في سوريا، ولكونها تقع في وسط طريق حلب-اللاذقيّة بمحاذاة الحدود السوريّة التركيّة، فالامتداد من إدلب نحو ريف حماه يمنح للمسلحين ومن يدعمهم القدرة للاتجاه نحو وسط حماه وقطع الطريق ما بين حمص وحلب من وسط حماه بالذات، كما هي مقطوعة ما بين حلب واللاذقية عن طريق إدلب. وتقول تلك المعلومات بأنّ القوى التكفيريّة على تنوّعها تتحرّك وفق خطة مدروسة معدّة تحاول من خلالها هزّ العرش السوريّ من إدلب إلى دمشق، ذلك أن إدلب والرقة في الجيوبوليتيك الحاليّ المصطنع في سوريا يمثلان أكبر تجمّع شرس وخطير للقوى التكفيريّة. وفي معرض قراءة الأوضاع على أرض الواقع هناك طرحت مجموعة أسئلة أهمّها لماذا وبعد تحرير حلب ومناطق عديدة تمّ تهريب المسلحين إلى إدلب ولماذا إدلب بالذات وما هي الخطط والآفاق المتولّدة من رحم هذه المناطق؟ والسؤال الأخطر المطروح لماذا سمحت روسيا بتوجّه هؤلاء نحو إدلب، هل ثمّة اتفاق أميركيّ-روسيّ ودوليّ بالنسبة لمسألة إدلب، ولماذا وفور تهديد بلدة محرة خرج صوت من قاعد حميميم يقول بأن بلدة محردة خطّ أحمر؟

يجيب مصدر دبلوماسيّ رفيع المستوى وعلى علاقة بالصراع في سوريا، بأن الصراع بات وبعد وصول الإدارة الأميركية الجديدة ما بين مفهومين يخضع النقاش السياسيّ بحماوة فائقة لمعاييرهما وهما:

1-مفهوم تتبناه روسيا ولا تزال تسير عليه في كل انبثاث رؤاها على الأرض وهو استمرار الحرب الجذورية على الإرهاب بلا هوادة، وقد رأت روسيا مع رئيسها فلاديمير بوتين بأنّ أية مباحثات في جنيف أو سواها، يفترض ان تلفظ بالقدرة المتملّكة بها القوى التكفيريّة من جوفها بتأثيرها وهيمنتها. وقد صرّح غير مرّة بأنّ المسلحين على الأرض هم الطرف الآخر مع غياب معارضة موحدّة، فهل يسوغ التفاوض والتحاور معهم، وهم وعلى حسب قول السفير الروسيّ في بيروت ألكسندر زاسيبكين يعيشون خارج دائرة الكون وخارج إطار الزمن؟ والتسوية السياسيّة يجب وبالقراءة الروسيّة أن تنطلق من الحرب الجذوريّة على الإرهاب وتبيح المشاركة السياسيّة بين الطوائف كلّها وبين السلطة والمعارضة على صورة الطائف اللبنانيّ ومثاله. والقراءة الروسيّة بحد ذاتها استراتيجيّة، فهذا الحلّ يؤمّن حماية خاصرتها من سوريا، مثلما ركز الروس في لبنان في الاستقرار السياسيّ في لبنان مع انبثاق فجر هذا العهد، والضغط في سبيل إقرار قانون للانتخابات، فخاصرة روسيا في سوريا تحمى بدورها من لبنان بفعل الاستقرار السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ.

2-مفهوم آخر تتبناه الولايات الأميركيّة المتحدة مع إدارة دونالد ترامب والتي في البداية توافقت مع الروس حول دعم الرئيس الأسد في حربه على الإرهاب، غير أن المصادر الدبلوماسية القريبة منها أفادت بأن وجود عديدها في محيط دير الزور لا يهدف لحرب ساخنة على الإرهاب بقدر ما يهدف لترسيخ حلّ قائم على مفهوم بعض الدويلات كتبنّي دويلة كردية في المدى الرابط ما بين سوريا وتركيا والعراق، وتقود بعض القراءات إلى أن التبني بحد ذاتها يزلزل ويزعزع كيانات الجوار السوريّ من تركيا إلى العراق ولبنان والأردن وصولاً إلى روسيا حيث ستتمرد الجمهوريات الانفصالية لتعلن وحدتها وتشن حربها على موسكو بالذات. والنتيجة حينئذ تتمثّل بزعزعة الأمن العالميّ بشقوقه السياسيّ والاقتصاديّة. فمنذ الاتحاد السوفياتيّ وصولاً إلى روسيا الحالية، الأميركيون يحاولون شلّ حراكها بوسائل ووسائط عديدة طورًا بقطع طرائق النعاون بينها وبين أوروبا وطورًا بخلق مشكلة لعا في أوكرانيا، وقمّة الحرب تحصل في سوريا مستخدمة شعبها وأمنها واستقرارها.

بالعودة إلى محردة وإدلب والواقع المسيحيّ بصورة عامّة، فإن إدلب عرفت بحضورها المسيحي المتنوع بالتجاور مع المسلمين وشكلوا مع بعضهم وصالاً وطنيًّا متينًا حفظ لمنطقتهم ولسوريا بهاءها. وبلدة محردة بدورها ما كان عصيّة على العيش مع الآخرين. ومسيحيو سوريا سواء كانوا في إدلب أو محردة أو وادي النصارى أو معلولا مدركون تمام الإدارك أنه ليس من مشكلة مع المسلمين، القضية هي مع هذا التحوير عينًا للنظرة الإسلامية بتملك تلك القوى ناصية القرار وإبعاد المستنيرين، هذا يعني بأن مسيحيي سوريا على الرغم من وحدتهم وقد تجلّت بقوّة وبخاصّة حين تحولت قرى وادي النصارى وبيوت الأهالي والكنائس وبخاصّة دير القديس جاورجيوس الحميراء إلى مراكز آوت وتأوي اللاجئين من محردة ولقد لاحظ كثيرون كيف أن الناس فتحوا بيوتهم وأمّنوا على الرغم من الضائقة المادية والمعيشيّة الخبز والطعام والماء والمأوى لهم، وأهل محردة والسقيلبية لا ينسون في الوقت عينه كيف أنّ شباب الحواش والمشتاية ومرمريتا قد توجهوا إلى بلدتهم للقتال هناك والدفاع عنهم دفاعًا مستميتًا وشرسًا.

أما ذلك يطرح مصدر مسيحيّ ما يلي:

- إنّ الكنائس المسيحية الأنطاكية مدعوّة إلى وثبة مضيئة، جذرية وحازمة، في قراءة الأنـور واستنباطها. لا يسوغ الوقوف مكتوفي الأيدي امام ما يحاك، هناك استهداف عميق لمسيحيي سوريا مثلما هناك استهداف مماثل لمسيحيي مصر، والمشكلة أن مواقف معظم الكنائس لا يزال ملتبسًا، والشرارة قد ابتدأت لحظة اختطاف المطرانين بولس يازجي ويوحنا إبراهيم وما أدركت تلك الكنائس بأن منسوب الخطورة على الوجود المسيحيّ قد ارتفع وهذا امر متوقع وسيزداد مع الوقت.

قد يطرح السؤال التالي ماذا يمكن أن يفعله الروحيون؟ يجيب المصدر المسيحيّ، المسألة حتمًا غير محصورة بالروحيين بل بالأفرقاء السياسيين المسيحيين وبخاصّة في لبنان. في سوريا ومصر لا توجد قيادات فعلية، في حين ان رئيس الجمهوريّة اللبنانية العماد ميشال عون يبقى الزعيم المسيحيّ المشرقيّ الأوحد، وفي الوقت عينه معظم القيادات المسيحيّة السياسيّة في لبنان مع النخب مدعوّة لمعالجة الخطورة بوضع الإصبع على الجرح والحراك نحو المراجع الدولية والإقليميّة والعربيّة العليا وليس استهلاك ما يحصل للشعر والترف. وفي الوقت عينه أشار المصدر المسيحيّ بأن على الكنائس كلّها مارونية وأرثوذكسيّة وكاثوليكيّة وسريانيّة أن تتجنّد في إصدار موقف صارم وصارخ فيما يحصل لمسيحيي سوريا. لقد فرغ العراق من مسيحييه والعائدون قلّة عزيزة، فهل ينتظر بفعل الصراع الدائر أن تفرغ سوريا من مسيحييها وسيناء في مصر أيضًا للتباكي على أطلالهم الدارسة والقول بأنه في إدلب أو محردة أو حماه كانت توجد كنيسة وكان فيها اناس نزحوا. ويصرخ هذا المصدر عاليًا: "أيها البطاركة والأحبار ماذا تنتظرون لتتحركوا أينكم من الرسالة الإنجيليّة في هذا الزمن العصيب، فبدلاً من التلهي بالقشور تنادوا إلى قمة روحية وأصدروا مجموعة مقررات لا تنحصر في إغاثة النازحين بل في احتضانهم والدفاع عنهم وعن قضيتهم، إقرعوا أبواب الأمم لتفتح لكم، قفوا بين البؤساء والتعساء وفي زمن الصيام قدموا لهم الحب والحنان والموقف المضيء والساطع.

إن لم يتمّ ذلك، فإن المؤامرة ستستكمل وستعبّر عن رسوخها اكثر بعملية التهجير المتعمدة والإفناء الممنهج. إسرائيل لا تريد وجودًا مسيحيًّا لا في سوريا ولا في العراق ولا في لبنان ولا في الأردن ولا في مصر.