تبدو التطورات المحيطة بوجود وانتشار "داعش" في العراق وسوريا شديدة التسارع. ففي ظل الهجوم المتواصل الذي يشنه العراقيون على الموصل المركز الرئيس للتنظيم في العراق والذي يؤذن بنهايته قريباً، حسب اغلب التقديرات، فان مواقع التنظيم في سوريا، ومركزه الرئيس في الرقة، يشهد تطورات متسارعة، الأبرز فيها انسحابات التنظيم تحت ضغط هجمات مسلحة من منطقة اللجاة في جنوب سوريا ومن القلمون الشرقي في ريف دمشق باتجاه تدمر والشمال السوري، ومثلها انسحابه الواسع من ريف حلب الشرقي والجنوبي، فيما تتواصل جهود حصار الرقة بعد الانزال العسكري الأميركي، وتحشدات قوات كردية، وأخرى تركية مدعومة بقوات للمعارضة السورية المسلحة، تسعى للمشاركة في معركة الرقة، التي من المنتظر بدايتها في غضون الأسبوعين القادمين على نحو ما أكدت تصريحات متعددة، وبينها تصريحات وزير الدفاع الفرنسي الذي تشارك قوات بلاده في التحالف الدولي للحرب على الإرهاب.

وتعكس التطورات المحيطة بوجود "داعش" وانتشاره في سوريا، حالة جديدة من تحشيد محلي واقليمي ودولي في الحرب على "داعش" رغم مابين الأطراف المتحشدة من تناقضات وصراعات في القضية السورية وحولها، الامر الذي يجعل من الحرب على "داعش" واجهة لاخفاء تناقضات وصراعات، يسعى كل طرف للحصول على مكاسب ميدانية وسياسية في اطار تلك الحرب، يوظفها في صراعاته مع الأطراف الأخرى.

الاميركيون وحلفاؤهم وخاصة المباشرين من قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل أكراد pyd صلبها مع تحالف عربي هش، يسابقون تركيا ونظام الأسد للاستيلاء على الرقة في مواجهة الآخرين، ولهذا لم يعملوا لقطع الطرقات الواصلة الى الرقة، بل أنزلوا جنودهم بالقرب منها، وادعى أكراد pyd، انهم شاركوا في الانزال، ثم اعلنوا عن تشكيل مجلس محلي للرقة، ضموا اليه شخصين من الاكراد، باعتبارها ستكون تحت سيطرتهم على طريق توسيع حدود مشروعهم في الإدارة الذاتية الديمقراطية.

الاتراك وحلفاؤهم من المعارضة السورية المسلحة المشاركة في درع الفرات، وبعد ان عجزوا في ضمان تأييد الاميركيين لرؤيتهم وموقفهم في الصراع السوري وحول سوريا، وعملوا للتفاهم مع الروس على مابينهم من تباعد في الموضوع السوري وحوله، وبعد ان سجلوا حضورهم الميداني والسياسي عبر السيطرة على منبج، يسعون باتجاه الرقة، ليس فقط ليكونوا في عداد المحاربين ضد "داعش"، بل اولاً لمنع تمدد قوات سوريا الديمقراطية بقيادة أكراد pyd، التي يرون فيها، قوة إرهابية حليفة لحزب العمال الديمقراطي الكردي pkk، تسعى لاقامة دولة كردية او يسيطر عليها الاكراد على حدودهم الجنوبية، وهذا خط احمر تركي، لايمكن القبول به تحت مختلف الظروف.

نظام الأسد وحلفاؤه من الروس والإيرانيين ومليشياتهم الذين لم يثبتوا أي جدية في الحرب على "داعش"، لم يعد بإمكانهم إغماض عيونهم عما يحصل من تطورات تحيط ب"داعش" مع اقتراب معركة الرقة، ورغم انهم حققوا انتشاراً أوسع في ريف حلب بعد انسحاب "داعش" امامهم من قرى في ريف حلب الشرقي والجنوبي، باتوا أكثر حذراً في التحرك نحو الرقة تجنباً للصدام مع القوات الأميركية، واحتمال مواجهة مع القوات التركية وحلفائها من درع الفرات، وكلها ذرائع لعدم ذهابهم الجدي في الحرب على "داعش" رغم صراخهم المتواصل بانهم يحاربون الإرهاب والتطرف.

وسط تلك الاحتدامات السياسية والعسكرية/ الميدانية، تبدو معركة الرقة ضد "داعش" قريبة ومحسومة النتائج. اذ لا قِبل لتنظيم "داعش" على مواجهة هذا الحشد في عدده وعتاده وقدراته في وقت يعاني التنظيم من هزائم في الموصل وانسحابات من أماكن انتشاره في سوريا، وجميعها تعزز فرص هزيمته واندحار قواته في الرقة.

غير ان هزيمة "داعش" في الرقة، ومثيلتها في الموصل ومع احتمال الحاق الهزيمة به في دير الزور لاحقاً، لن تضع حداً لوجوده، انما سوف تدخله في تحول نوعي، تنقله من وجود علني ومجسد حسبما هو عليه حالياً، الى وجود سري، يأخذ شكل الخلايا النائمة والمجموعات السرية المغلقة، وهي موجودة لدى "داعش" حالياً لكنها، ستصير شكله الرئيس، لان شكله العلني، هو الذي سيصبح محدوداً في وقت قريب.

ان التحول المرتقب لدى "داعش" يستند الى عوامل، بعضها يتعلق بالتنظيم نفسه، وأخرى تتعلق بالبيئة المحيطة، التي لها دور في التحول المرتقب. والأبرز في العوامل الخاصة بالتنظيم، يكمن في طبيعة التنظيم بما هو تنظيم وظيفي أكثر مما هو تنظيم ايديولوجي، يعتمد على بنية امنية وعسكرية ودعاوية، ويأخذ على عاتقه إقامة "دولة خلافة إسلامية"، تقوم على القوة والعنف، تديره شخصيات وأجهزة سرية، تماثل في تركيبتها ودورها أجهزة المخابرات، وقد اشارت عشرات التقارير والدراسات الى روابط التنظيم مع أجهزة مخابرات وخاصة بقايا مخابرات نظام صدام حسين في العراق ومخابرات نظام الأسد في سوريا والمخابرات الإيرانية، كما ان تركيبه التنظيم السرية بما فيها من تعتيم على قياداته واجهزته واغلب مصادر تمويله وتسليحه وعلاقاته، إضافة الى نسقه الخيطي لا التسلسلي، وكلها عوامل مساعدة لتحول التنظيم الى خلايا نائمة، ومجموعات مغلقة.

وتضيف البيئة المحيطة عوامل أخرى، تساعد "داعش" في تحوله المرتقب الى خلايا نائمة وجماعات سرية مغلقة. اذ عمل التنظيم طوال سنوات ماضية لنشر أفكاره حول التطرف، وعمم اشكال استخدام القوة والإرهاب طريقة في تعامله مع الآخرين، ونظم في أماكن سيطرته عشرات آلاف الأشخاص ولاسيما الأطفال الصغار الذي يسميهم البعض ب"الجيل الثاني" من "داعش" ودربهم ليصبحوا دعاة ومقاتلين في خلاياه، وثمة امران لابد من اخذهما بعين الاعتبار في جملة الظروف المحيطة، التي ستساعد التنظيم في تحوله القادم، أولهما استمرار شيوع القتل والصراعات الدموية، واستمرار المظالم التي يخلفها في سوريا والعراق، والثاني غياب الحل السياسي الذي يفترض ان يؤدي الى تطبيع الحياة اليومية ليس في سوريا والعراق وانما في بلدان الجوار والابعد منها، والتي مازالت، تعاني من تداعيات الصراعات المسلحة، التي نشأ "داعش" في بيئتها، ويعتمد على تلك البيئة في الاستمرار.