بعثت المعارك الأخيرة في دمشق والقلمون الشرقي وريف حماة برسائل سياسية إلى القوى المتحالفة ونظام الأسد بأن المعارضة السورية تستعيد وزنها الميداني رغم خسارتها في معركة حلب، غير أن التباينات والاختلافات بين كتلها يعُوق تقدمها السياسي في مفاوضات جنيف5 أمام عجر المعارضة على استيعاب الغام دي ميستورا وغموض دور واشنطن والتناقضات الدولية والإقليمية التي تلقي بآثارها الثقيلة في العملية السياسية الانتقالية.
 

لم يكن مستغربا أن تنفجر الخلافات في كتلة المعارضة السورية الرئيسية على خلفية التنافس على الظهور الإعلامي؛ فقد أعلن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بعد اجتماعه في إسطنبول في السادس من الشهر الجاري إقالة كل من سالم المسلط ومنذر ماخوس من وفدها في الهيئة العليا للمفاوضات، وهدد بإعادة انتخاب ممثليه التسعة في الهيئة بمن فيهم رياض حجاب.

تكشف هذه الأزمة عن أحد جوانب مفاوضات جنيف التي تستأنف في الخامس والعشرين من مارس الجاري، والتي تحوّلت الى مسرح استعراض إعلامي لا يتوقع منها اختراقات جدية في ملف الحرب الدموية السورية والتي تحوّلت الى ساحة صراع إقليمي ودولي متشابك ومعقد، اكتفى منها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا بإنجاز وحيد تمثل في التجديد لمهمته سنة أخرى من مجلس الأمن.

مع فشل الجولة الأخيرة في أستانة في إقناع المعارضة المسلحة بالمشاركة، وإصرار موسكو على وضع ايران كقوة ضامنة رئيسية لوقف إطلاق النار رغم مشاركتها في الحرب السورية بما يزيد على سبعة فصيلا طائفيا مسلحا، باتت منصة جنيف المنصة الضرورية لاستمرار الوهم بوجود عملية سياسية واعدة، رغم قناعة كل الأطراف أن الأمل مازال بعيدا للدخول في عملية سياسية جدية تفضي إلى انتقال سلمي للسلطة في البلاد، فقد نجح بشار الجعفري رئيس وفد النظام في جنيف4 في فرض بند مكافحة الاٍرهاب على جدول الأعمال مستغلا تفجير مبنى الأمن السياسي في حمص، ولم يكن أمام وفد المعارضة إلا أن يبتلع الطعم، رغم أن الاٍرهاب ووقف العمليات الحربية واليات المراقبة هو من اختصاص اجتماعات أستانة، واكتفى نصر الحريري رئيس وفد المعارضة في جنيف بالقول “إننا نتمسك بالمسارات الثلاث المتلازمة والمتوازية التي تقدم بها دي ميستورا وبالقرار الأممي 2254، بما يعني بحث هيئة الحكم والانتخابات والدستور”.


ألغام دي ميستورا

وتحت ضغط ومخاوف التهميش والاستبعاد والاستبدال، لم يتمكن وفد المعارضة من مواجهة الفخاخ والألغام التي تحتويها ورقة دي ميستورا، فالقرار الأممي الناظم للعملية التفاوضية، لا يقول بهذه الآليات الجديدة بتلازم المسارات أو السلال التفاوضية (بحسب تعبير ورقة الدعوة) والتي قد تدخل المفاوضات في عملية طويلة ولسنوات قادمة، هذا عدا الغموض المتعمد في النص الخاص بالحكم الانتقالي، الذي تارة يأتي بصيغة هيئة للحكم وأخرى بحكومة انتقالية تقترب من تصور النظام لإقامة حكومة وحدة تشارك فيها المعارضة. ما يعني اختراع مرجعية جديدة للمفاوضات، وهو الفخ الذي وقع به أشقاؤهم الفلسطينيون في مفاوضاتهم المتعثرة مع إسرائيل والمستمرة منذ عشرين عاما.

اللغم الآخر الذي أبقاه دي ميستورا سيفا مسلطا على رقبة المعارضة يتمثل في دعوة منصتي القاهرة وموسكو اللتين تحولتا إلى تجمع لشخصيات سياسية لا تمثيل ولا وزن لها، بعد انسحاب أبرز الشخصيات المعارضة من المنصتين، وخاصة تيار الغد السوري بقيادة أحمد الجربا الرئيس السابق للائتلاف، والذي يشارك بفصيل عسكري كبير “قوات النخبة” في عملية تحرير الرقة، كما يصرّ دي ميستورا على دعوة عدد كبير من منظمات المجتمع المدني السورية بصفة مستشارين، وهو ما اعتبره وفد الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات “محاولة خبيثة لإفراغ تمثيل المعارضة الحقيقية من مضمونها، وتقديم شخصيات هامشية لا وزن شعبي وسياسي لها في سوريا كبديل”.

غموض موقف واشنطن في الملف السوري يضفي المزيد من الشكوك حول إمكانية حصول اختراق جدي في جنيف5
وخارج أروقة التفاوض ثمة ما يدعو للقلق في أوساط الاتلاف وهيئة التفاوض، فالفصائل المصنفة على قوائم الاٍرهاب (داعش والنصرة باسمها الجديد هيئة تحرير الشام) مارست في الفترة الأخيرة عملية ترهيب وتصفية لغالبية القوى المعتدلة المشاركة في العملية التفاوضية بشقيها، أستانة وجنيف.

وبالفعل يعيد مراقبون للشأن السوري امتناع الفصائل المسلحة عن حضور اجتماع الأستانة الأخير إلى أن الأذرع السياسية للفصائل باتت مفصولة عن قواعدها العسكرية وتقيم خارج الميدان؛ فيما يخشى ما تبقى من هذه الفصائل من تهديد التصفية على يد داعش والنصرة، ما اضطرها إلى طلب الحماية التركية والانضمام إلى قوات درع الفرات، أو مغادرة الساحة السورية في انتظار تحوّلات قادمة.

رغم أهمية العوامل السابقة والتي تخفض التوقعات من الجولة الجديدة لمفاوضات جنيف، إلا أن التناقضات الإقليمية والدولية تلقي بآثارها الثقيلة أيضا على كامل العملية السياسية الانتقالية وجدواها. فقد بات واضحا أن هناك تواطؤا أميركيا روسيا على تحجيم الدور التركي وطموحاته في منطقة آمنة، وبمساحة خمسة آلاف كلم مربع، من جرابلس الى أعزاز وصولا إلى منبج والباب. فالاقتراحات الأميركية الجديدة بشأن وضع مدينة منبج، يستثني كل القوى المسلحة الحليفة لتركيا، ويصر على تسليم المدينة لقوى خضعت لبرنامج التدريب والتسليح الأميركي (لواء المعتصم واللواء51)

وفِي الجانب الآخر من الصورة ثمة تباينات خفية بين أطراف الحلف الثلاثة، النظام والإيراني والروسي، بين تصورات تغلب استراتيجية الحسم العسكري او اعتماد سياسة العصا والجزرة وتفكيك القوى المسلحة المعرضة واستعادة حواضنها الشعبية عبر مصالحات وهدن مناطقية، ما يشترط إخراج القوى الأجنبية الطائفية وفِي مقدمتها حزب الله والفصائل الطائفية الباكستانية والأفغانية والعراقية، والتي يتسبب وجودها في تسعير الصراع الديني والمذهبي في المنطقة ويعطي المشروعية لتواجد الأجانب “الغرباء” في صفوف المعارضة السورية المسلحة.


غموض الإدارة الأميركية

لعل الغموض المربك في موقف الإدارة الأميركية الجديدة في الملف السوري يظل أحد العوامل الأساسية التي تضفي المزيد من الشكوك حول إمكانية حصول اختراق جدي في جنيف5 . فالإشارات الصادرة من واشنطن تبدو أنها غير معنية لا بالأستانة ولا بجنيف، وأنها تكتفي بالمراقبة من بعيد، كما أن الممارسة الميدانية على الأرض تضفي على المشهد المزيد من الارتباك والتشويش، فالبنتاغون يدعم لوجستيا وماديا قوات سوريا الديمقراطية ذراع الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي تعتبره تركيا حركة إرهابية، في الوقت الذي تدعم المخابرات المركزية أطرافا معتدلة في المعارضة السورية التي تقاتل قوات سوريا الديمقراطية وتصفها بالحركة الانفصالية، أما الخارجية الأميركية فتكتفي بالرد بأنها “في صدد مراجعة الموقف في سوريا وتشكيل طاقمها الجديد، وسنكتفي في الوقت الراهن بالدور الذي يلعبه ممثل الخارجية الدبلوماسي المحترف مايكل راتني”.

أمام هذا المشهد المرتبك والمتشابك والتريث والانتظار الذي يسم كل الأطراف المعنية بالوضع السوري، اندفعت قوى المعارضة المسلحة لفتح جبهات جوبر دمشق لفك الحصار عن القابون وكذلك جبهة ريف حماة الشمالي والغربي، في محاولة لفك الحصار ومنع التهجير وكسر الخطوط الحمراء واستنزاف قوات النظام وحلفائه، الأمر الذي أربك كل الاطراف، بعد سنوات من لجم المعارضة ومنعها من الاقتراب من مناطق الأقليات المسيحية والعلوية والإسماعيلية.

وبقدر ما بعثت المعارك في دمشق والقلمون الشرقي وريف حماة برسائل إلى جمهور المعارضة وحواضنها الشعبية بعد أشهر من التقاتل والتصفيات الداخلية، إلا أنها قدّمت عشية جنيف5 رسائل سياسية في غاية الأهمية للنظام والقوى الدولية أن الحل للأزمة السورية العميقة، لا يمكن أن يكون عسكريا وتدميريا شاملا وأن مقولة “الأسد او لا أحد” لم تفض إلى نتيجة ولم توقف الحرب المدمرة التي دخلت عامها السابع، بل هي وصفة لإطالة أمد الحرب لعقود طويلة تتجاوز بآثارها المدمرة حدود سوريا نحو الإقليم وأمنه واستقراره.

محمد مشارقة