لم يأت السيد نصر الله بجديد في حديثه عن الزواج المبكر، والأمر موجود في الشريعة الإسلامية منذ عصور وبالتالي فإن السؤال هل يتناسب ما كان قديمًا مع الحياة الإجتماعية في عصرنا الراهن؟
 

تمهيد..
لم يأتِ السيد حسن نصرالله في إطلالته الاخيرة بجديد بما خصّ قضايا الزواج المبكر حين دعا إلى عدم التشهير بهذا الزواج؛ أو الدعوة إلى تمديد سن البلوغ حتى سنّ الثامنة عشرة، وواضح هنا أنّ نصرالله يعود إلى مفاهيم وعقليات القرون الوسطى وما قبلها؛ فالدعوة لمنع زواج القاصرات (ذلك أنّ الأمر يطالهنّ في معظم الأحيان) هي دعوة تنتمي لفكر الحداثة وحقوق الانسان؛ في حين كانت العصور القديمة تجهل هذه المفاهيم؛ أو كان من غير الممكن التفكير فيها، لدواعٍ تاريخية وحضارية وثقافية ودينية؛ وابرز مثال على تلك الدعاوى التي لم تعرفها البشرية قبل إنبلاج عصر حقوق الإنسان هي الرِّق ومتفرعاته.

إقرأ أيضًا: السيد علي فضل الله.. حجاب النجف والحجاب الأوروبي
أولًا:الزواج المبكر عند المسلمين.. 
لم يرد في نصوص الفقه والحديث والسيرة والأدب ما ينُمُّ عن دعوة صريحة أو مواربة للنهي عن زواج القاصرات، أو ما ندعوه اليوم بالزواج المبكر؛ ولعلّ النصوص الطويلة التي تركها الامام الغزالي في هذا الصدد تفصح عن ذلك، فالغزالي يستفيض في مقدمات طويلة في الترغيب في النكاح؛ حتى زعم بعضهم أنّه أفضل من التخلي لعبادة الله؛ وإستند في ذلك لآيات عديدة في القرآن الكريم، منها: (ولقد أرسلنا رُسُلًا من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذرية)؛ (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرّة أعين )، أمّا الأحاديث فعديدة أيضًا ومنها: (النكاح سُنّتي فمن رغب عن سُنتي فقد رغب عني)؛ (من كان ذا طولٍ فليتزوج )؛ وقال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه؛ إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الارض وفساد كبير )، ويستطرد الغزالي بعد ذلك في ذكر فوائد الزواج ومعظمها تخصُّ الرجال ولا تأتي على ذكر النساء؛ تراث ديني وفكري واجتماعي ينضح بالذكورية؛ وهذا طبيعي في زمانه وبيئته، أما مسألة الزواج المبكر فقد قاربها الغزالي في تعداد آفات الزواج؛ ولا يرى ضيرًا في هذا إلا عند الرجال؛ أما عند النساء فلم تخطر على باله كما يظهر؛ وأولى آفات الزواج العجز عن طلب الحلال؛ "عند الرجال فقط "؛ وقد يدخل المتزوج مداخل السوء فيتبع هوى زوجته ويبيع آخرته بدنياه وهو مستغرق في كسب عيشه وعيش أهله وولده، وعن النبي: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)؛ وروي أنّ الهارب من عياله بمنزلة العبد الهارب الآبق؛ لا تقبل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم؛ وقد قال تعالى :(قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) والإنسان قد يعجز عن القيام بحق نفسه واذا تزوج تضاعف عليه الحق وانضافت الى نفسه نفس ٌ أخرى والنفس أمّارة بالسوء؛ إن كثرت عليها الحقوق كثُر الأمر بالسوء غالبًا، وعن بِشر أنه قال: يمنعني من النكاح قوله تعالى: (ولهنّ مثل الذي عليهن)؛ ورُؤي سفيان ابن عيينة على باب السلطان فقيل له: ما هذا موقفك! فقال :وهل رأيت ذا عيالٍ أفلح؟ 
لم يأتِ الغزالي وأقرانه من الفقهاء على ذكر المرأة في آفات الزواج وبقي الامر محصورا بالرجال؛ إلا أنّ الغزالي يورد في نهاية سلسلة طويلة من موانع النكاح الشرعية في البندين السابع عشر والذي يليه: أنّ الثيب الصغيرة لا يصحُّ نكاحها إلا بعد البلوغ؛ وفي البند الأخير يقول: أنّ اليتيمة لا يصح نكاحها إلا بعد البلوغ، وكل ذلك دون أي تحديد لسنّ البلوغ.

إقرأ أيضًا: مسلسل الفضائح ومسلسل البلد بألف خير
الزواج المبكر في الأخبار والروايات... 
أفرد إبن قتيبة الدنيوري في كتابه عيون الأخبار فصلًا طويلًا عن النساء ؛وهو لم يعثُر على ما يبدو على شيء يذكر فيما يتعلّق بزواج القاصرات، وتنضح الروايات الطويلة والأخبار والحِكم المتفرقة عن لهجةٍ ذكورية طاغية؛ تميل للحطّ من قيمة المرأة والتركيز على الجمال والمتع الحسية دون المعنوية والخلقية؛ وغالبًا ما تظهر المرأة بمظهرها السلبي، لا حول ولا طول ولا رأي لها ولا مشورة والامر بين يدي وليها؛ فهذا عقيل بن علفة وكان غيورًا؛ فخطب إليه عبدالملك بن مروان إبنته على أحد بنيه؛ وكانت لعقيل إليه حوائج؛ فقال له:إن كنت لا بد ّ فاعلا فجنّبني هُجنائك، وهذا يعني أنّ المرأة لا تُسأل في أمر زواجها مع إحتفاظ الرجال بالمحافظة على الأحساب والأنساب، حتى ذُكر عن عمر الخير "وكان مزواجًا" قوله في عام سنةٍ: لعلّ الضيقة تحملهم على أن يُنكحوا غير الأكفاء؛ وكتب زياد؛ وهو والٍ على العراق إلى سعيد بن العاص يخطب إليه أم عثمان بنت سعيد وبعث إليه بمالٍ كثير؛ فلما قرأ الكتاب أمر حاجبه بقبض المال والهدايا؛ فلما قبضها أمره بقسمها بين جُلسائه؛ فقال الحاجب: إنّها أكثر من ذلك؛ فقال: أنا أكثر منها؛ ففعل؛ ثم كتب إلى زياد: بإسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد؛ فإنّ الانسان ليطغى أن رآه استغنى؛ إلا أن إبن قتيبة يورد رواية يتيمة تُظهر مساوئ الزواج غير المتكافئ؛ فقد خطب الحارث بن سليل الأسدي إلى علقمة بن خصفة الطائي وكان شيخًا؛ فقال لأمّ الجارية: أريدي ابنتك على نفسها فقالت: أي بُنية أيُّ الرجال أحبُّ إليك: الكهل الجحجاح "السيد الكريم "؛ الواصل المنّاح؛ أم الفتى الوضاح؛ الذّهول الطماح؟ قالت يا أمّتاه 
إنّ الفتاة تحب الفتى
كحُبّ الرِّعاء أنيق الكلا. 
فقالت: يا بنية؛ إنّ الشباب شديد الحجاب؛ كثير العتاب؛ قالت: يا أمتاه؛ أخشى من الشيخ أن يُدنّس ثيابي ويبلي شبابي؛ ويُشمت بي أترابي؛ فلم تزل بها حتى غلبتها على رأيها؛ فتزوج بها الحارث ثم رحل إلى قومه؛ فإنه لجالس ذات يوم بفناء مظلّته وهي إلى جانبه؛ إذ أقبل شبابٌ من بني أسد يعتلجون "يتصارعون "؛فتنفّست ثم بكت؛ فقال لها: ما يُبكيكِ؟ قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ؛ فقال: ثكلتك أمُك "تجوع الحُرّة ولا تأكل بثدييها"- فذهبت مثلًا- أما وأبيك لرُبّ غارة شهدتها وسبيّة أردفتها وخمرة شربتها؛ فالحقي بأهلك؛ لا حاجة لي فيك.
وبعد؛ فإنّ عودة السيد حسن نصرالله الى تراث السلف ومفاهيمهم التي تختلف عن مفاهيم القرون الحالية لا تساعد في التضامن الأُسري؛ فضرورات الإختلاط والتربية والتعليم والعمل وتكوين الاسرة ومندرجات الأنشطة الإجتماعية التي لا تُعد ولا تحصى تفرض التفاعل مع قيم الحداثة وعصر حقوق الانسان؛ ومن بينها تأتي نواهي الزواج المبكر بإعتباره عامل هدم للاسرة؛ بعكس ما يُروج له دُعاة الجمود على التقليد؛ والحض على ترك الامور على عواهنها وإخراج ما في جعبة السلف من نصوص جامدة عفا عليها الزمن.