إذا فشلت انطلاقة العهد، فأمام الرئيس ميشال عون سنوات أخرى للتعويض. وسواءٌ تبدّل المجلس النيابي بالانتخابات أو استمرّ أشهراً أخرى أو عاماً بالتمديد، فالرئيس نبيه بري حاضر. وحدَه الحريري يواجه تحدّي البقاء في السراي الحكومي بعد الانتخابات.
 

 لذلك، يبدو في الأيام الأخيرة أنه المتحرِّك بين ساكنَين: عون وبري.يتجنّب الحريري أن يبلغ الوضع الذي يصبح فيه معرَّضاً للاستهداف مرّة أخرى. وفيما الآخرون جميعاً يتمسكون بـ»تسوية الخريف» الرئاسية بدرجات متفاوتة، فإنه يحرص عليها في اعتبارها مسألة حيوية. ولذلك هو يتجنّب أيّ صدام سياسي مع أيّ طرف، ويعمل لتدعيم انفتاحه على الجميع.

تحت غطاء هذه التسوية يحاول الحريري تعويض الخسائر الفادحة التي تكبّدها في سنوات الغياب. فبالتسوية هو عاد إلى السراي الحكومي، واستعاد زعامة الطائفة. ومعه انتعش تيار «المستقبل»، وتوقفت عمليات التفكّك التي تستهدف قواعده وكوادره، لمصلحة قوى أكثر راديكالية. وفضلاً عن ذلك، وفّرت التسوية له فرصة لكي يتجاوز مآزقه التي تراكمت في السنوات الأخيرة.

يقول بعض المتابعين: «لن يقبل الحريري بإهدار الفرصة التي أُتيحت بالتسوية الرئاسية. فصحيح أن لا ضمانات لعودته إلى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات النيابية، ولكن، ليس منطقياً أن يعمد بعض القوى إلى الإستفادة من دوره في إيصال رئيس الجمهورية من فريق 8 آذار، ثم يتم التخلّي عنه في موقع رئاسة الحكومة بعد استنفاد الحاجة إليه!».

فروحية التسوية هي التوازن. والسبب الأساسي لتخلّي الحريري عن ترشيح شخصية من 14 آذار لرئاسة الجمهورية هو مراعاة التوازن في السلطة التنفيذية، بحيث يكون هو رئيس الحكومة ممثلاً 14 آذار، مقابل رئيس للجمهورية من 8 آذار.

وإذا أزيح الحريري من السراي بعد الانتخابات ليأتي مكانه رئيس للحكومة محسوب على 8 آذار، فإنّ التوازن يكون قد اختلّ تماماً، وأصبحت السلطة برؤوسها الثلاثة في يد فريق سياسي واحد!

حتى اليوم، الطرف الوحيد الذي لم يمنح الحريري وعداً بعودته إلى السراي بعد الانتخابات هو «حزب الله». وأساساً، هو لم يرشحه للعودة إلى السراي في أول حكومة لعهد عون، بل اكتفى برفع «الفيتو» عن هذه العودة، تسهيلاً لمرور التسوية. وهو يطالبه بأن يعتمد نهجاً منسجماً معه في الحكومة. وقد تحقَّق ذلك ضمن حدود مقبولة.

ويدرك الحريري أنّ «الحزب» يستفيد من التركيبة الموجودة في السلطة حالياً، ولا سيما عون (المسيحي القوي) والحريري (السنّي المعتدل والمنفتح دولياً وحليف السعودية) لتشكيل مظلة دولية - إقليمية تحميه من العواصف في زمن المواجهة الأميركية - الإيرانية. لكن هذا الرهان ليس كافياً.

وهو يعمل للإمساك بمزيد من الأوراق لتقوية موقعه:

1 - تشكيل شبكة علاقات في مختلف الاتجاهات. ولذلك، هو يتجنب أيّ ردّ فعل تجاه أيّ طرف سياسي، على رغم من أنّ الوضع كان يحتاج أحياناً إلى الردّ. وهو يتمسك بعلاقات وثيقة مع الرئيس نبيه بري وتحالف مع النائب وليد جنبلاط وقوى 14 آذار، ويطمح إلى بناء قاعدة تفاهم على الخطوط العريضة مع «حزب الله».

2 - ترميم الوضع السنّي. وفي هذا المجال، يأتي انفتاحه على الرئيس نجيب ميقاتي والنائب محمد الصفدي، وحتى على الوزير السابق عبد الرحيم مراد.

3 - اعتماد قانون انتخاب يمنع حصول اختراقات أساسية للقوى داخل الطائفة السنّية. وفي الترجمة، الحؤول دون نموّ ظواهر مماثلة لظاهرة الوزير السابق أشرف ريفي في طرابلس والمناطق الأخرى.

4 - إتخاذ موقف مرن في الملف الإقليمي، سواء بتجاوز مسألة مشاركة «الحزب» في الحرب السورية أو التنسيق الجاري أو المحتمل بين أجهزة في السلطة اللبنانية ودمشق. فهو ووزراؤه سيسجلون اعتراضهم على هذا التنسيق، لكنهم لن يتسبّبوا بأزمة سياسية على خلفيته.

المحيطون بالحريري يشجعونه على هذا النهج، وخصوصاً في إطار اجتماعات لجنة الحوار مع «حزب الله»، في ضيافة بري. وهو يعتبر أنّ التضحيات التي يقدمها اليوم لصون التسوية، مهما غلت، تبقى أدنى بكثير من الخسائر التي يتكبدها إذا سقطت هذه التسوية وخرج من السراي.
عند هذه النقطة، تقوم القوى السياسية الفاعلة بمساومة الحريري حول كثير من التفاصيل، وخصوصاً قانون الانتخاب.

وفيما تأجيل الانتخابات النيابية يريحه ويمنحه فرصة لترتيب قواعده الشعبية بعد غياب سنوات، فإن مرحلة التأجيل ستشهد كباشاً عنيفاً حول القانون، لا يستطيع أن يضمن نتائجه.

يعتبر البعض أنّ الحريري، بنزوله إلى ساحة رياض الصلح، حاول سدّ فجوة تركت أثرها في الانتخابات البلدية السابقة. فبين المعتصمين في الساحة منافسوه الانتخابيون المفترضون، أنصار لائحة «بيروت مدينتي»، الذين كادوا يخرقون لائحته بقوة لو تمّ اعتماد النظام النسبي. وعندما يتقدم الحريري لمحاورة هؤلاء ميدانياً - وحده بين سائر المسؤولين- فإنه يحاول بناء جسر للتواصل والثقة معهم، وتنفيس الاحتقان.

وأيّاً يكن مستوى الجرأة التي أظهرها الحريري بنزوله إلى الساحة، ومهما كان في ذلك من مغامرة لجهة ردّ فعل الغاضبين أو «المدسوسين»، فإنه يبقى أدنى من مستوى المغامرة الكبرى التي خاضها يوم تبنّيه ترشيح النائب سليمان فرنجية ثم عون.

فيوم ترشيح عون، اعترف الحريري بأنه ربما يخوض «مخاطرة كبرى»، وسأل: ماذا كان يفعل الرئيس رفيق الحريري لو مرّت به هذه الظروف والمحطات بعد 14 شباط 2005 والانقلابات وسقوط الشهداء؟ واستدرك جازماً أنّ والده اختار دائماً التضحية من أجل البلد.

إذاً، يريد الحريري أن يضحّي، شرط أن يبقى هناك هدف من التضحية، وأن يكون هذا الهدف قابلاً للتحقّق. وإلّا، فإنّ عودة الحريري إلى بيروت وإلى السراي ستنتهي بخيبةٍ مماثلة للخيبات السابقة. وهذا ما لا يريده الحريري. وفي النهاية هو رجل سياسة يقود تياراً سياسياً يقود طائفة، وليس مجرد فاعل خير لوجه الله.

الحريري يخوض التحدّي الأكبر منذ دخوله عالم السياسة، وستأتي الانتخابات النيابية، ولو بعد حين. فهل يُكافأ على إيجابياته أم يُصاب بالصدمة؟