من ساحة رياض الصلح الى المختارة، قال الشارع أمس كلمته ووزع الرسائل في اكثر من اتجاه، فارضا ايقاعه مرة اخرى على المشهد السياسي المتصدع الذي بدا بحاجة الى ترميم سريع، قبل استفحال تأثير الاهتزازات المتلاحقة التي يتعرض لها.
في الجبل، بايع عشرات الالوف من الموحدين الدروز خيارات النائب وليد جنبلاط بعد استشعارهم بـ «الخطر الوجودي»، وكانوا شهودا على انتقال كوفية الزعامة من الاب الى الابن تيمور في الذكرى الاربعين لاغتيال جده كمال جنبلاط.
وفي وسط بيروت، انتفض اللبنانيون على «دكتاتورية» الضرائب و«محميات» الفساد، وقالوا «لا» مدوية لمحاولة تمويل سلسلة الرتب والرواتب المشروعة من خلال لحمهم الحي، بعدما افترضت السلطة ان بامكانها «تهريب» الزيادات الضريبية عبر «الخط العسكري»، بأقل ضجيج ممكن.
وربما تكون السلطة قد اصبحت، في أعقاب انتفاضة المجتمع المدني «المتجددة»، اكثر ميلا الى تأجيل الانتخابات النيابية، سواء تقنيا او سياسيا، خشية من ان تفلت منها خيوط اللعبة، وان يُترجم المزاج الشعبي «المتمرد» الى اصوات هادرة وثائرة في صندوق الاقتراع.
ولئن كان الرئيس سعد الحريري قد حاول احتواء غضب المحتشدين في وسط بيروت بنزوله الى الارض الساخنة ووقوفه على «خط التماس» مع المتظاهرين مخاطبا اياهم ومحاولا طمأنتهم، إلا انه سرعان ما تبين ان حجم الاحتقان الشعبي هو اكبر من ان تحتويه مبادرة فردية لرئيس الحكومة، حتى لو اعتبرها البعض «شُجاعة»، ما اضطره الى «الانسحاب» سريعا، بمواكبة مرافقيه، تحت وابل من رشقات الزجاجات الفارغة وخفقات «القلوب الملآنة»...
لقد بدا الحريري وكأنه يحاول ان «يقود» التظاهرة، رافعا لواء محاربة الفساد والهدر ومبديا تعاطفه مع المطالب المحقة، إلا ان هذا «الانزال» خلف شعارات المحتجين لم ينجح في تحييده عن «بنك الاهداف» الذي حدده المعترضون في الشارع، رافضين التفاوض معه، في تعبير عن ازمة الثقة بين الناس والدولة.
وليست الحكومة والسلطة التشريعية هما المطالبتان فقط بالتقاط نبض الشارع ومحاكاة تطلعه الى تحقيق الاصلاح الملح والعدالة الاجتماعية، بل ان رئيس الجمهورية ميشال عون معني، وربما أكثر من غيره، بملاقاة الناس في أول الطريق، لا في منتصفها، وصولا الى الاستجابة لصرختهم ضد الضرائب المجحفة ولالحاحهم على وضع قانون انتخاب جديد، قبل ان يؤدي تراكم عناصر الخلل الى استنزاف زخم العهد ورصيده باكرا.
والمهم ألا يكون ما حصل بالامس مجرد «نزهة احتجاجية»، في يوم عطلة، وبالتالي فان المحك يكمن في البناء على لحظة النهوض الشعبي وتفعيلها، لمواصلة الضغط على مراكز القرار الرسمي بشكل تراكمي، ودفعها نحو مراجعة خيار فرض الضرائب واعطاء الاولوية لتحدي مكافحة الفساد.

 مهرجان المختارة 

على المقلب الآخر من الجغرافيا والسياسة، كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط يعيد تثـبـيت موقع «المكوّن الدرزي» في النظام ومنظومة التوازنات، على طريقته التي لا تخلو من الابهار البصري والحبكة الدرامية.
واستعان جنبلاط في تظهير هذه المشهدية المركّبة بـ «الاحتياط الاستراتيجي» من جمهوره الذي لبّى النداء وهبّ لنصرة الزعيم والوريث، زاحفا بعشرات الالاف من بلدات الجبل وراشيا وحاصبيا الى قصر المختارة، في يوم «حشر» للخصوم الذين كان بعضهم حاضرا، حتى قيل انها «تسونامي درزية».
وإذا كان 8 و14 آذار هما التاريخين اللذين شكلا علامة فارقة على المستويين السياسي والشعبي منذ عام 2005، وحتى الامس القريب، فان جنبلاط استطاع ان يُدخل 19 آذار الى المنافسة بقوة، محوّلا اياه الى يوم يُحسب له حساب في روزنامة المناسبات اللبنانية، على قاعدة ان ما بعده ليس كما قبله.


 لقد استخدم جنبلاط البارحة لغة الارقام ليصيغ بها رسالة موجهة الى كل من يهمه الامر فحواها انه يجيد فن الحشد والتعبئة كما غيره، وان حجمه الحقيقي يقاس بعدد الذين حضروا، لا بمزاجية الذين يفصلون قوانين الانتخاب ويوزعون الحصص كالإعاشات.
صحيح، ان كلمة جنبلاط تفادت الخوض العلني في الملفات الخلافية، واستوت عند الثوابت الاساسية، لكن ما همست به بين السطور كان يكفي لترسيم الحدود بين المقبول والمحظور، في رد ضمني على محاولة الاستفراد والاقصاء، التي يستشعر بها زعيم الجبل وجمهوره.
وامام الحشد الواسع في الذكرى الاربعين لاستشهاد كمال جنبلاط، استكمل رئيس «اللقاء الديموقراطي» مراسم «الانتقال السلس» للزعامة الموروثة الى تيمور، فأودعه مجموعة وصايا مستمدة من دروس التجربة، وألبسه الكوفية الفلسطينية بكل ما تختزنه من رمزية ودلالة، الامر الذي يضع الابن امام تحديات مفصلية وينقل دوره السياسي من مرحلة «التعاقد» الى مرتبة «التثبيت»، ومن مستوى «الهواية» الى عالم «الاحتراف». 
والكوفية الفلسطينية جرى توزيعها على جميع الحاضرين، فكانت قاسما مشتركا بينهم، على اختلاف تلاوينهم وانتماءاتهم، في زمن التآمر عليها والتنصل منها. والمناسبة جمعت كل الاطياف الداخلية حول جنبلاط الاب والابن، من «تيار المستقبل» الى «حزب الله» و«حركة امل» مرورا بـ «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر».  
وفي ظل المزج بين خصوصية ذكرى اغتيال كمال جنبلاط، واحتفالية تجيير الزعامة الى تيمور، وتفاقم الهواجس الدرزية بفعل «فوبيا» قانون الانتخاب... امتد السيل الجماهيري عبر كيلومترات طويلة، وصولا الى المختارة، حيث ضاقت اروقة القصر الجنبلاطي والساحات المحيطة به بالوافدين من كل الاعمار، في استنفار شعبي يكاد يكون غير مسبوق، ورافقته حالات اغماء تطلبت تدخل الصليب الاحمر. 
وكانت الوفود الشعبية قد بدأت منذ ساعات الصباح الاولى، بل حتى قبل صياح الديك، بالتدفق في اتجاه موقع المهرجان، سعيا الى حجز امكنة في الصفوف الامامية المشرفة على المنصة التي سيطل منها جنبلاط، لكن الزحمة الشديدة فرضت على الكثير من الحافلات والسيارات التوقف في بقعاتا المجاورة، ليشق المناصرون طريقهم الى المختارة سيرا على الاقدام، في رحلة لا تخلو من بعض المشقة، خصوصا بالنسبة الى كبار السن. 
شباب وشيوخ ونساء واطفال حملوا اعلام «التقدمي الاشتراكي»، وامتدوا كسلسلة مترابطة على مسافة طويلة، تواكبهم الاناشيد الحزبية، وتحميهم قوى الجيش والامن الداخلي، فيما تولت عناصر اشتراكية الاشراف على التفاصيل اللوجستية والتنظيمية.
ومع الاقتراب شيئا فشيئا من قصر المختارة، كانت «الحمّى الجماهيرية» ترتفع، وهوامش المناورة المرورية تضيق الى حد «الاحتباس البشري». بصعوبة شديدة، اخترق المدعوون الرسميون من سياسيين واعلاميين الحشود المتجمعة وعبروا الى داخل القصر، حيث كان جنبلاط وابنه تيمور في استقبالهم.
ووسط التدافع والهتافات، القى جنبلاط كلمة اكد فيها انه «مهما كبرت التضحيات من اجل السلم والحوار والمصالحة تبقى هذه التضحيات رخيصة امام مغامرة العنف والدم او الحرب». واضاف : «لذا، يا تيمور، سر رافع الرأس واحمل تراث جدك الكبير كمال جنبلاط، واشهر عاليا كوفية فلسطين العربية المحتلة، كوفية لبنان التقدمية، كوفية الاحرار والثوار، كوفية المقاومين لاسرائيل ايا كانوا، كوفية المصالحة والحوار، كوفية التواضع والكرم، كوفية دار المختارة»..