لا تغيب المزايدة على الممارسة السياسية في لبنان، حتى في أحلك الظروف تبقى حاضرة في ذهن وتخطيط الجميع، وهي غالباً ما تضرب على أوتار مذهبية وطائفية حساسة، أو على أمور معيشية ترتبط بقوت المواطن، يتم الإستثمار فيها شعبياً، هذا ما حصل مع جلسة سلسلة الرواتب التي أسقطها تطيير النصاب. خرج حزب الكتائب من الجلسة، محاولاً إعلان الإنتصار لمبدأ رفض فرض ضرائب جديدة على الناس، وهذا ما أعلنه النائب سامي الجميل في مؤتمر صحافي، وهو ناقض في مضمونه ما قاله بمؤتمره الصحافي فور رفع الجلسة، إذ رفض الاتهامات التي وجهت إلى الكتائب بأنها هي التي عرقلت إقرار السلسلة.

في المشهد العام، ومن خلال تصريحات الجميع، بدا جلياً تقاذف المسؤولية بين الأفرقاء، والهدف واحد بعدم إقرار السلسلة، الكلّ يتهم الكل، ثمة من أراد التصويب على رئيس الحكومة سعد الحريري، بسهمين، الأول تحميله مسؤولية إقرار الضرائب الجديدة، والثاني بعرقلة إقرار السلسلة، ولا شك في أن غياب الرئيس نبيه بري عن الجلسة، ووجود رئيس الجمهورية خارج لبنان، وضع الحريري وحده في مواجهة الغليان الشعبي، والصورة تكفّلت في ذلك، إذ كان الحريري إلى جانب نائب رئيس المجلس فريد مكاري، فيما الإنتقادات في الشارع توجّه إليه.

اختلط الحابل بالنابل، في معرض إتهام مكاري حزب الكتائب بتطيير الجلسة، بدا وكأن الكتائب كسب في الشارع، وهذا ما أغضب آخرين، وفي مقدمهم القوات اللبنانية، التي اعتبرت أن خطأ الحريري ومكاري كان قاتلاً بمنح الفرصة للكتائب، وإظهار الكتلة المؤلفة من خمسة نواب وكأنها استطاعت عرقلة ما كان يسعى إليه أكثر من مئة نائب، ما يوحي بأن الجميع كان متفقاً على الإطاحة بالسلسلة أو على الأقل قذفها بعيداً.

وسط ذلك، كان التيار الوطني الحرّ ينسحب من المشهد، فهو لا يريد أن يكون في موقع المعرقل إقرار السلسلة، ولا يريد الظهور في موقع الموافقة على إقرار الضرائب التي أقرت، عليه، كان هناك تصريحان للنائبين إبراهيم كنعان وآلان عون، اعتبرا فيهما أن الكتائب كان شريكاً في المشاورات في اللجان المشتركة وفي الحكومات السابقة، وإذا كان لديه إقتراح بتوفير الإيرادات للسلسلة من غير الضرائب فليتقدم بها، وانتقد النائبان العونيان "المزايدة" الكتائبية، في الصورة أيضاً، بقي جعجع إلى جانب الحريري ومكاري في مواجهة الإتهامات وحفلة المزايدة، إلى أن سارع رئيس القوات سمير جعجع إلى إعلان تعليق موافقة القوات على إقرار السلسلة حتى يجد المعترضون الحلول لإيراداتها.

كل هذه الحسابات والتكتيكات، كانت تنطلق من أهداف انتخابية، خصوصاً أن المعارضة في هذه المرحلة تعتبر "كسّيبة"، بينما الحقيقة تكمن في مكان آخر، وهو ما كشفه النواب عن بعضهم البعض، بأنه خلال استراحة ما بين الجلستين، كانت المشاورات تدور حول كيفية تطيير النصاب لتطيير الجلسة، فيما هناك عامل جديد دخل على الخطّ، وفق الوزير علي حسن خليل الذي اعتبر أنه يخشى من ماكينة الشركات والمصارف هي من أدارت حملات التشويش للتهرب من فرض ضرائب عادلة ومباشرة عليها.

المعادلة بسيطة إذاً، حفلة مزايدات انتخابية في العلن، وتوافق وتواطؤ في السرّ، خصوصاً أنه تم تطيير النصاب قبل البدء بنقاش وإقرار بنود ضريبية على الأرباح، فيما الإختلاف في الخارج يصبّ في خانة الإستثمار الشعبي، وهذا ينطبق مع ما كشفه الجميل، من أنه خلال جلسات سابقة لمجلس الوزراء، كان هناك إقتراحات لمنح اعفاءات ضريبية لبعض الشركات الكبرى، وفي وقت رفض الجميل تسمية هذه الشركات، تكشف معلومات "المدن" أن من بينها، عدد من المصارف، وسوليدير، وشركات أخرى تابعة للقوى السياسية، منحت هذه الاعفاءات الضريبية، وهذا متفق عليه بين الجميع.

وما جرى، وضع الحريري في موقع المصّوَّب عليه وحده، خصوصاً أن غياب التيار الوطني الحر، حزب الله، وحركة أمل، وحفلة المزايدة الكتائبية وموقف جعجع، أبقى على الحريري ومكاري في فوهة المدفع، وهذا ما يرد عليه أحد المستقبليين بالقول إن "ما أقر كان بناء على توافق بين الجميع، وهناك من يريد فرض ضرائب على الفقراء والأغنياء لتمويل نفسه في ظل الضائقة المالية التي يتعرّض لها، وهذا الإتهام الموجه إلى المستقبل في مكان، يوجّهه المستقبليون بدورهم إلى حزب الله، لكن سياسة الحزب الذكية تظهره وكأنه بعيد عن هذه الحسابات، وأنه يرفض فرض ضرائب تطال المواطنين ولقمة عيشهم، فيما هو يريد فرض ضرائب على المصارف والدخول في مفاوضات لإجبارها على الموافقة على إدخال الأموال إليه بمعزل عن الاجراءات الأميركية والدولية ضده.