..وفي مستهل السنة السابعة، يبدو وكأن الزمن السوري توقف عند الباحث الفرنسي الراحل ميشال سورا، الذي إستعيدت ذكراه حديثا إثر صدور الترجمة العربية لكتابه المرجعي عن "سوريا- الدولة المتوحشة"، في حقبة الثمانينات من القرن الماضي..التي لا تزال على قيد الحياة، ولا تزال طقوسها وسلوكياتها وتقاليدها وخياراتها، حاضرة الى درجة توحي بأن الثورة التي انطلقت في مثل هذه الايام من العام 2011، لم تكن سوى عودٍ على بدءٍ، يحتوي الكثير من الضغائن والاحقاد الموروثة التي إنفجرت تباعاً لتؤدي الى البركان الحالي.
دخلت تعديلات كثيرة على ثنائية "الدولة البعثية" و"الاخوان المسلمين"، لكنها في نهاية المطاف السوري لم تكن جوهرية. تحلل الفريقان الى مكوناتهما الاولية، وتجذر الصراع واكتسب المزيد من المسميات والكثير من الحلفاء والاعداء، من دون ان يغادر تصنيفه الأهم، الأهلي المحلي، ومن دون أن يفارق هدفه الاسبق وهو إطاحة حكم الأقلية والتأسيس لحكم ديني، كان في زمن ميشال سورا يكشف عن توق إسلامي سنّي عام، لا يقتصر على سوريا (بدليل حركة جهيمان العتيبي في السعودية) الى تقليد الثورة الاسلامية في إيران، وإستلهام تجربة قائدها الامام الخميني، الذي لم يكن منقطعاً عن حركة الاخوان المسلمين في مختلف أنحاء العالم العربي، ومن بينها سوريا بالذات.
المواجهة مستمرة، بأشكال أخرى، أعنف وأوسع وأخطر من فترة الثمانينات، لا سيما بعدما إنضمت إليها غالبية دول الإقليم والعالم، من دون أن يتجاوز أحد السؤال القديم عن المفاضلة المستحيلة بين النظام الاستبدادي الحاكم وبين التهديد الإسلامي الصاعد، لا سيما وأن الميدان السوري لم يوفر طوال السنوات الست الماضية البديل الثالث للفريقين المتطاحنَين حالياً، كما لم يسمح ببروز نماذج او ظواهر واعدة، من داخل النظام المقفل على خيار القتال حتى الرمق الاخير، او من داخل التنظيمات والشبكات الاسلامية التي ليس لديها "خميني سوري" يمكن أن يقود الثورة الى النصر.
الفارق الوحيد بين الثمانينات واليوم هو أن الجمهور اللاديني، المدني، اليساري، الليبرالي، القومي، الذي أطلق الثورة القائمة وقادها في مراحلها الاولى، لم يتردد هذه المرة ولم يقف في الوسط، كما فعل قبل نحو أربعين عاماً، بل قرر أن إسقاط النظام الذي أنتج طغيانه أسوأ مظاهر الإرهاب الاسلامي، أولوية مطلقة تتقدم على كل ما عداها من أولويات. وهو قرار إستند في العمق الى حجم المذبحة التي ارتكبها النظام، ولا يزال، بحق الملايين من السوريين. لم يكن هناك خيار آخر، لكنه لم يؤدِّ حتى الآن الى تطوير آليات مواجهة جدية للاستبدادَين القائم والمقبل، تتيح الأمل بخلاص سوري حقيقي.
والحق ان الضربة التي تلقاها ذلك الجمهور كانت موجعة، من قبل النظام أولاً الذي إلتزم حرفياً بكتاب التعليمات الموروث من الثمانينات، ثم من قبل حلفائه الإيرانيين ومليشياتهم، ثم الروس الذين فعلوا بسوريا في الأشهر الـ18 الماضية ما لم يفعلوه في أفغانستان أو الشيشان، بل حتى ما لم يفعله الأميركيون في العراق..بتواطوء عربي ظاهر مرده الى الوعد الروسي بإخراج إيران من سوريا، وبتساهل غربي يخلط بين الرغبة في إغراق روسيا وبين اللامبالاة إزاء الكارثة الانسانية السورية.
ما زالت سوريا هناك، في حقبة الثمانينات. تقرأ طبعة منقحة ومزيدة من كتاب ميشال سورا. تمحو السؤال الدائم عن موعد إنتهاء الحرب. وتستبدله بسؤال معاصر عن الشكل الذي سيتخذه الصراع في المرحلة المقبلة..وإن كان لدى الجميع تصور واضح عن حجم العنف الآتي، على أنقاض محاولات تفاوض ومساعي تسوية ثبت أنها ما زالت سابقة لأوانها، ويمكن تفجيرها بسهولة من الداخل السوري من دون الحاجة الى الروس او الإيرانيين أو سواهم.