ظن أحد الكتاب الصغار عام 1925، ويدعى إي بي وايب، أنَّ لديه فرصة في الكتابة لمجلة أميركية جديدة تدعى ذا نيويوركر.
 

أرسل وايب بعض المقالات دون خطابات تقديمية- لم يرسل سوى المقالات وظرف موجه لعنوان بيته في حالة رفض مقالاته. كان وايت خجولاً خَجَلاً لا يصدق، وكذلك ظل طيلة حياته، حسب تقرير لموقع ديلي بيست الأميركي.

كان هذا الظرف الموجه لعنوان المرسل إليه، الذي أصبح مهجوراً بعد اختراع البريد الإلكتروني، وسيلة خلاص هذا الكاتب الخجول.

تسمح هذه الطريقة للكاتب باستلام القبول أو الرفض من خلال صندوق البريد، دون حاجة لتكوين شبكات معارف أو تملق المحررين، أو الكلام مع أي شخص مطلقاً.

وقال وايت متأثراً، بعد سنوات من هذا الموقف، عندما أصبح أبرز كتاب ذا نيويوركر: "إنَّ الانطباع الذي يأتيني عن المجلات التي ترفض الأعمال المقدمة دون تمهيد أنها مجلات كسولة، وغير مبالية، وواثقة بنفسها إلى حد الكِبر".

وليس من العجيب، إذاً، أنَّ المسرحية المفضلة لوايت كانت "سيرانو دي بيرجيراس" لإدموند روستاند، التي تتكلم عن الكتاب المجهولين الذين يكتبون كتابات بليغة تنشر باسم شخص آخر. ولا يمكن إلا لشخص خجول مثل وايت أن يكتب عن مدينة نيويورك أنَّ بإمكانها أن تهب "لمن يرغب هاتين الهبتين النفيستين... هبة الوحدة، وهبة الخصوصية".

ويمكننا تتبع آثار خجل وايت في كتابه الإرشادي الكلاسيكي للكتابة "The Elements of Style" (خصائص الأسلوب) - 1959.

بنى وايت كتابه على كتاب إرشادي سابق كتبه ويل سترانك، أستاذه السابق بجامعة كورنل الأميركية، الذي عبر عن إعجابه به في مقال كتبه عن "طبيعة الإيجاز وجماله".


اخلع سروالك دون كشف عورتك

بحسب كتاب خصائص الأسلوب فإنَّ الكتب الجيدة لا تعرض آراء الكاتب مجاناً، لأنَّ ذلك سوف يعني ضمنياً أنَّ "الطلب على هذه الآراء كثير، مع أنَّ الأمر قد لا يكون كذلك".

بالنسبة لوايت، ينبغي للنثر الجيد أن يجمع بين البساطة والإخفاء المتعمد. كتب وايت عام 1946، أنَّ الكتابة "عملية من الإخفاء والكشف في آن"، خصوصاً بالنسبة للكتابة الشخصية، التي ينبغي للكاتب فيها "أن يخلع سرواله دون أن يكشف عورته".

وكان وايت يرى أنَّ صوت الكاتب وسيلة لإخفاء غروره، وأنَّ البراعة والذوق جزءان أساسيان من عملية الإخفاء تلك.

هل هناك شيء ما في الكتابة يجذب الخجولين إليها دون غيرهم؟ إنَّ كتَّاباً مثل نيكولاس بيكر، وألان بينيت، وجون ديديون، وديفيد فوستر والاس، وجي كي رولينغ، وجاريسون كيلور، لا يشكِّلون إلا جزءاً صغيراً من قائمة طويلة من الكتاب المعاصرين الذين كتبوا أو تكلموا عن الخجل.

وأنشأ الروائي، باتريك جيل، مؤخراً مهرجان نورث كورنوول للكتاب في بريطانيا، خصوصاً من أجل الكتاب الخجولين.

وكتب جيل في صحيفة الغارديان البريطانية: "أكثر الروائيين من أشد الناس خجلاً، يشاهدون الحياة بطرف العين بدلاً من أن ينخرطوا فيها بصخب.

توجب على الكثير منا التغلب على هذا الخجل وتطوير شخصية استعراضية يمكن للشخصية الخجولة أن تستمر في استراق النظر إلى الحياة من ورائها".

وجعل جيل مهرجانه صغيراً وحميمياً لمساعدة زملائه الانطوائيين، وجعل فيه "طاولة ملأى بالكعك المعد منزلياً".

ربما يكون فن كتابة الجمل، الذي يسمح لك بإعادة انتقاء كلماتك بلا نهاية حتى تصل للكلمات الصحيحة، ربما يكون مغرياً لأولئك الذين لا يتميزون بالقدرة على الكلام المفوه في حياتهم.

ويقول فيرلين كلينكنبورغ إنَّ أصعب شيء يتعلمه الكاتب أنَّ كتابته "يتيمة". فقد كتب: "عندما تُستدعى جملك للوقوف أمام محكمة المعنى، فإنها ستحظى بتوجيهك. ستقول هذه الجمل ما تقوله الكلمات بكل دقة، ولو جعلك هذا تبدو سخيفاً أو مرتبكاً، فتلك طبائع الأمور".

إنَّ جزءاً من كل كاتب يعتقد أننا، معاشر الكتَّاب، سوف نحلق حول كل قارئ لنشرح له ما نعنيه حقاً. لكنني أظن أنَّ الكتاب الخجولين يرتكبون هذا الخطأ ذاته بدرجات أقل: فهم أكثر ارتياحاً لفكرة كتابة جمل يتيمة، والسماح لهذه الجمل بالكلام نيابة عنهم.


هل تزيد مواقع التواصل المشكلة؟


ويعرف الكتاب الخجولون أيضاً أنَّ نفخ الروح في الكلمات أمر صعب. فقد كتب وايت في كتابه "خصائص الأسلوب": "عندما تقول شيئاً ما، تأكد من أنك قد قلته حقاً. إنَّ احتمالية أن تكون قد أوصلت فكرتك ليست مؤكدة".

إنَّ الكتابة درسٌ طويل في صعوبة استدعاء الكلمات بطريقة توضح معانيك. ومع هذا، فإننا صرنا نعتقد في عصر التواصل الفوري الذي نحياه، من مكالمات سكايب، والتغريدات ومنشورات فيسبوك، والرسائل النصية، أنَّ التواصل مع الآخرين سهل.

هذه نسخة جديدة من مشكلة قديمة. يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا إنَّ تقليد الفكر الغربي برمته، وصولاً إلى جمهورية أفلاطون، يعاني من تحيز فكري سماه phonocentrism (بمعنى التمركز حول اللغة المنطوقة والاعتقاد بأفضليتها عن اللغة المكتوبة)- وهي الفكرة القائلة إنَّ الكلام، الذي نتعلمه غريزياً، طريقة تعبير أكثر طبيعية من الكتابة التي نتعلمها بصعوبة.

والآن نعيش في عصر متمركز حول اللغة المنطوقة، عصر يبالغ في تقييم الكلام، ويحب التظاهر بأنَّ الكتابة في حقيقتها كلام. يطمح النثر المنشور على الإنترنت أن يصل إلى الكلام الدارج غير الرسمي، ويستدعي تفنيداً فورياً في نهاية المكتوب.

إنَّ اللغة البصرية في إرسال الرسائل النصية، مع وجود فقاعة التفكير المتحركة من يمين الشاشة إلى يسارها، تحاكي المحاورة الفعلية.

إنَّ واحدة من آثار هذا الأمر هي تهديد مكانة عنصر من أهم العناصر المحددة للجملة المكتوبة ألا وهو: النقطة الختامية.

يتجنب الشباب هذه الأيام في رسائلهم النصية وتغريداتهم على موقع تويتر، بشكل روتيني، استخدام النقاط ويستعيضون عنها بفواصل الأسطر، والرموز التعبيرية، والقبلات، ونقاط الحذف الثلاث، أو لا شيء على الإطلاق. يؤدي التخلي عن النقطة في ختام الجمل، على الشبكات الاجتماعية، إلى الإيحاء بالارتجالية، لتبدو التعليقات غير رسمية والنكات عفوية.

وجدت دراسة أُجريَت عام 2015 بجامعة بينغهامتون الأميركية، أنَّ المولودين في الألفية صاروا يعتقدون أنَّ الرسائل المنتهية بنقطة تبدو شديدة الإيجاز والاقتضاب. وصاروا يستشعرون أنَّ ذلك الجزء من الثانية الذي يضيف فيه الكاتب نقطة يعطي انطباعاً بالنفاق أو الفظاظة. ويدل على اعتقادهم هذا استخدامهم للنقطة بين كل كلمة للتعبير عن شدة الغضب أو عدم التصديق. كأن. يكتبوا. هكذا.

إنَّ نظريتي أنَّ الخجولين أقل احتمالاً من غيرهم أن ينتسبوا لذلك التمركز حول اللغة المنطوقة. أولاً، لأنهم يعرفون أنه لا شيء طبيعياً فيما يتعلق بالكلام، إذ علمتهم التجربة المريرة أنَّ الكلام مهارة معقدة، تتطلب التنسيق بين عمل العقل، والتنفس، واللسان، والأسنان من أجل التعبير عن الجهد غير المتبلور للعقل في صورة كلامية. إنَّ أمراً على هذا القدر من الصعوبة لا يمكن إتقانه أبداً.

اللغة فعلٌ تطوري مؤقت، حلٌّ معيبٌ جاء به الانتقاء الطبيعي للمرور العابر على تلك الفجوة العقلية مستحيلة التجاوز التي تفصلنا عن بعضنا البعض. وللخجولين فهم صحي لهذا الجانب الناقص بطبيعته في كل اللغات. لا يتأثر الخجولون بالوهم القائل إنَّ بإمكاننا أن نعبر عن أنفسنا بشكل كامل. يعرف الخجولون أننا، جميعاً، معقودو اللسان. غاية الأمر أنَّ ألسنة بعضنا أكثر انعقاداً من البعض الآخر.

ويعرف الخجولون أيضاً أنَّ الكتابة والكلام مختلفان. إنَّ الجملة المكتوبة ليست مجرد رسالة في فقاعة تفكير (كتلك التي تظهر عند كتابة رسالة على الهاتف) تنتظر رداً. يمكن إتباع الرسالة بتوضيح، وهي عادة ما ترسل إلى شخص نعرفه، ويعرف عاداتنا الغريبة وسياقنا.

أما الجملة فهي تتعلق بصياغة كلماتك لتوصيل فكرة مكتملة لا تحتاج إلى شخص آخر لينهيها لك. تحتاج الجملة إلى نقطة لأنها ليست محادثة. إننا نكتب وحدنا، اعتقاداً بقوة الجملة المركبة على توصيل معنى للآخرين الغائبين، والمجهولين، والموجودين في أماكن أخرى.


محادثة في أدمغتنا

عادة ما يُنظر إلى الخجل باعتباره ابتعاداً عن الجمهور، وانسحاباً من الحياة الاجتماعية. لكنه يتضمن أيضاً إعادة توجيه غرائزنا الاجتماعية إلى مناطق أخرى، مثل الكتابة.

إننا نكتب، جزئياً، بسبب شعورنا بأنَّ أنماطاً أخرى من الحوار قد فشلت، وأننا بحاجة إلى الكلام نيابة عن الآخرين، لو كان لنا أن نتكلم أصلا. إنَّ الكتابة، مثلها مثل الخجل، تستمد مما يسميه الفرنسيون l’esprit de l’escalier: أي هذه المحادثة التي نجريها في أدمغتنا بعد أن يغادر الشخص الآخر.

إنَّ الكتابة بهذا الغرض تشبه المقامرة. ربما يتضمن هذا الأمر سنوات من العزلة المفروضة على النفس، لينتهي المطاف بما قصد أن يكون علاجاً للخجل، وسيلة لمفاقمته.

إنَّ الكتاب الخجولين، أبعد ما يكونون عن الجبن، إذ تنطوي كتابتهم على مخاطرةٍ كبيرة: ألا وهي المخاطرة بأنَّ كتابتهم قد تجد صدى، لو كانوا محظوظين، لدى شخص آخر في إحدى فترات المستقبل المؤجلة.

لكنَّ ثمة أمراً شديد الإنسانية ها هنا. نحن لسنا الحيوانات الوحيدة الاجتماعية والتواصلية. فلدى الحيتان والدلافين، والطيور، ومخلوقات أخرى لغات معقدة ربما تبدو حتى أكثر تعقيداً لو استطعنا فك شفرتها.

لكننا الحيوانات الوحيدة التي تحوِّل غرائزها التواصلية إلى صيغٍ بديلة. نحن وحدنا من يترك علامات يمكن قراءتها عندما لا نكون موجودين، بل يمكن حتى قراءتها بعد مغادرتنا هذه الحياة. إنَّ الكتابة هي الحل الذي تفتَّق عنه ذهن التطور لمشكلة الوحدة الإنسانية. فلا عجب، إذن، من انجذاب الخجولين للكتابة. وهذا الأمر ينطبق على كاتب هذه الكلمات التي تقرأها الآن.